[ما جاء من أقوال المفسرين في قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)]
قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان، وتعليم البيان وخلق الشمس والقمر والأرض خاطب الجن والإنس فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته، وفي رزقه إياكم ما به قوامكم.
وقال ابن قتيبة: الآلاء النعم، واحدها (ألا) مثل قفا، وإلا مثل معى.
فإن قيل: كيف خاطب اثنين وإنما ذكر الإنسان وحده؟ وذلك في قوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) وكذا الإشارة في صدر السورة بقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:١ - ٤]، وقد سبق أن ذكرنا في قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أن هناك تفسيراً لتكذبان وأن معناه: أيها الثقلان؛ لأنه فيما بعد أتى قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:٣١]، وهناك تفسير آخر وهو أن الخطاب أساساً موجه للإنسان؛ لأنه هو الذي سبق ذكره وحده، فكيف خوطب الإنسان بقوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))؟ قيل عنه جوابان: الأول: أن العرب تخاطب الواحد والقوم بفعل الاثنين، هذا أسلوب عربي معروف، فالعرب أحياناً تخاطب الشخص الواحد بالفعل الذي يخاطب به الاثنان كما في قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:٢٤]، والخطاب هنا لخازن النار، وتقول العرب للرجل: ويلك أرحلاها وازجراها.
وقال الشاعر وهو مضر بن ربعي الأسدي: فقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله واجتز شيحا (صاحبي) يعني: الشخص الذي يحتطب له، وهو شخص واحد، وكان عندهما اللحم يريدان شواءه.
(لا تحبسانا) يعني: لا تحبسنا ولا تعطلنا عن شي اللحم، وواضح جداً أن الخطاب لواحد، لكن استعمل خطاب الاثنين.
(اجتز شيحا) يعني: اكتف بقطع الشيح؛ لأن الشيح أسهل وأسرع حتى نأكل بسرعة، هذا معنى كلامه.
والشاهد هنا في قوله: (لا تحبسانا)، يعني: لا تحبسنا عن شي اللحم.
وأنشد أبو ثروان فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحمي عرضاً ممنعاً وواضح جداً أنه يخاطب ابن عفان وحده.
يقول ابن الجوزي: فيروى أن ذلك منهم لأن الرجل أدنى أعوان إبله وغنمه اثنان.
يعني: أقل عدد من الأعوان عند العرب للذي يكون معه إبل وغنم يكون اثنان.
قال: وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قيل: يا صاحبيَّ يا خليليّ؟ فكثير جداً من الشعراء حتى في الجاهلية، دائماً يقولون: يا صاحبي يا خليليّ.
وقال امرؤ القيس: خليليّ مرا بي على أم جندب نقض لبنات الفؤاد المعذب يعني: حاجات الفؤاد المعذب، ثم قال: ألم تر أني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيَّبِ سنلاحظ أنه يخاطب في الظاهر اثنين، لكن اتضح بعد ذلك أنه يخاطب واحداً؛ لأنه في الأول قال: (خليليّ) كعادة العرب في خطاب الواحد بلفظ الاثنين؛ لأن الغالب أنه يكون معه اثنان، فيستعمل معهما صيغة المثنى، فإذا كان معه واحد استعمل أيضاً صيغة الاثنين؛ لأنهم تعودوا عليه.
ولهذا قال هنا في البيت الثاني: (ألم تر) يعني: يا صاحبي، الذي عبر عنه قبل ذلك بالاثنين.
فهذا هو الجواب الأول، لو قلنا: إن ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) خطاب للإنسان وحده.
القول الثاني: وهو الأرجح -والله تعالى أعلم- أن الذكرى أريد به الإنس والجان، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)) يعني: أيها الثقلان، فجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها.