[الحكمة من تخصيص عيسى بالذكر في قوله:(وأيدناه بروح القدس)]
ألم يؤيد الأنبياء جميعاً بروح القدس؟ ألم يؤيد نبينا عليه الصلاة والسلام بروح القدس؟
الجواب
بلى، إذاً ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى خص المسيح عليه السلام هنا بأنه أيده بروح القدس؟ خص الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام بذكر التأييد بروح القدس؛ لأنه تعالى خصه به خصيصة لم تكن مع غيره، وهي: أن جبريل عليه السلام كان مع المسيح عليه السلام مؤيداً له من وقت صباه إلى حال كبره عليه السلام، كما قال تعالى:{إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[المائدة:١١٠] كيف؟ {يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ}[المائدة:١١٠] فهذا ما لم يقع لغيره من الأنبياء، فالأنبياء أوحي إليهم على كبر من السن، وجبريل كان يؤيدهم، لكن فيما بعد، أما المسيح عليه السلام فخص هنا بالتأييد لأن له خصيصة ليست لغيره، وهي: أن جبريل كان يؤيده منذ كان وليداً في المهد، والدليل قوله تعالى:{إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}[المائدة:١١٠] ما معنى كهلاً؟ هذه من آيات الله سبحانه وتعالى في حق المسيح عليه السلام، (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، الكلام في المهد معجزة بلا شك، وعيسى عندما يتكلم وهو في المهد هذه معجزة، لكن هل من المعجزات أن يتكلم الكهل؟! الكهل الكلام بالنسبة إليه ليست معجزة وليست آية؛ لأنها شيء طبيعي أن يتكلم، لكن الإشارة هنا إلى معجزة أخرى خاصة بالمسيح عليه السلام حيث اقترن كلامه وهو كهل هنا بشيء غير عادي، وهو أنه سيبقى في السماء إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بنزوله من السماء في آخر الزمان ويكلم الناس وهو كهل، أي كبير في السن، فالمقصود بذلك اقترانه بمعجزة نزوله من السماء في آخر الزمان حاكماً بالقرآن، فيقول تعالى:{إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}[المائدة:١١٠]، هذه خصيصة من خصائصه، ولأنه تعالى حفظه بجبريل حتى لم يدن منه الشيطان:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[آل عمران:٣٦] هكذا قالت امرأة عمران أم مريم، (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من مولود يولد إلا يطعنه الشيطان في خاصرته؛ فيستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه)، وذلك استجابة لهذه الدعوة:(وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
هناك تفسير بأن (روح القدس) هو الإنجيل نفسه، قالوا: لأن الله وصف القرآن أيضاً بأنه روح، كما قال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}[الشورى:٥٢]، فإن القرآن سبب الحياة الأبدية، والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش، وهذا التفسير رده الحافظ ابن كثير مستدلاً بقوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}[المائدة:١١٠] فذكر أنه أيده بالإنجيل، وأيده بروح القدس، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل لكان قوله:(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) تكرير قول لا معنى له، فالله أعز من أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم، فيكون تكرار بلا فائدة وبلا جدوى، فدل هذا على المغايرة، وأن روح القدس في أول الكلام ليس هو الإنجيل المذكور في آخره.
قال تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}[البقرة:٨٧] المقصود: فلم تستقيموا، ولم تؤمنوا به، ولم تستجيبوا له، هذا هو جواب الكلام.