[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا)]
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠].
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا)) يعني: اصبروا على مشاق الطاعات، وما يمسكم من المكاره والشدائد.
((وصابروا)) أي: غالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الجهاد، لا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً.
ذكر المصابرة بعد الصبر مما يدل على شدته وصعوبته.
((وَرَابِطُوا)) أي: أقيموا على المرابطة والغزو في سبيل الله، وذلك بالترصد والاستعداد لحرب الأعداء، وكذلك برباط الخيل كما قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:٦٠].
والأصل في الربط أو الرباط هو أن يربط كل من الفريقين خيولهم في الثغور، وكل معد لصاحبه، ثم صار لزوم الثغر رباطاً، مثل المناطق الساحلية -مثلاً- التي يمكن أن يغزى المسلمون من خلالها، وربما سميت الخيل نفسها رباطاً.
وقد وردت الأحاديث بالترغيب في الرباط في سبيل الله وذكر فضله وأجره، منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) أي: أن يقف في موقعه يحرس الثغر أو بلاد المسلمين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذين كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)، يعني: أمن فتنة القبر وعذاب القبر، فأحد أسباب النجاة من فتنة القبر: هو أن يموت مرابطاً في سبيل الله تبارك وتعالى.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل ميت يختم على عمله -أي: ينتهي عمله بموته- إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر).
وقيل أيضاً: ((رابطوا)) يدخل في معناها انتظار الصلاة بعد الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (أقبل عليّ أبو هريرة رضي الله عنه يوماً فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا))؟ قلت: لا.
قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه؛ ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة) يعني: لم يكن هناك ثغور في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية، ولم تكن البلاد قد فتحت، حتى يرابطوا ويحرسوا هذه الثغور، ولكنها نزلت في قوم كانوا يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت: ((اصبروا)) أي: على الصلوات الخمس، ((وصابروا)) أي: أنفسكم وهواكم، ((ورابطوا)) في مساجدكم ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) فيما عليكم، ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) أي: تفوزون.
(ولعل) لتغييب المآل، لئلا يتكلوا على الآمال، أي حتى لا يقطع لهم بالفلاح فيتكلوا في هذه الحالة على مجرد الآمال.