للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)]

ثم ساق الله سبحانه وتعالى الآية الثانية لبيان ولاية الله للمؤمنين، فإن الآية السابقة كالعنوان وهي قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ثم بين في هذه الآية مظاهر ولاية الله سبحانه وتعالى للمؤمنين فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:١٢].

وفي قوله تعالى: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) رد على من يقول: إن الإيمان من الرجل يقتضي الطاعة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك ما أعادها، فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح، وقيل: إن الجنة تنال بالإيمان، والدرجات تُستحق بالأعمال الصالحة، والله تعالى أعلم.

قوله: ((جَنَّاتٍ)) وهي البساتين, وإنما سميت جنات لأنها تُجِنّ من فيها، أي: تستره بشجرها، ومنه المجن، وهو الترس؛ لأن صاحبه يستتر به أثناء القتال، فإذا جاءت الطعنة فإنها تصيب الترس ولا تصيب صاحبه، فهذا هو المجن، ومنه سمي الجنين؛ لأنه مستور في بطن أمه ولا يُرى ومنه الجن، لأنهم لا يُرون.

قوله: ((إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) إعراب ((تَجْرِي)) فعل مضارع مرفوع؛ لأنه يسبقه ناصب ولا جازم، وحذف الضم من الياء لثقلها، فأصلها (تجريُ)، لكن الياء مع الضمة ثقيلتان، فحذفت الضمة من الياء، فنقرأها: ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ))، عند الأعراب مرفوع بالضمة المقدرة على الياء.

وقوله: ((مِنْ تَحْتِهَا)) أي: من تحت أشجارها، فما من جنة ولا بستان إلا وفيه أشجار، فلفظ الجنات دالٌ على الأشجار، فمعنى ((من تحتها)) أي: من تحت أشجارها.

وقوله: ((الأَنْهَارُ)) أصل النهر: هو الأخدود، فإذا حفر في الأرض وصار فيها هذا الفراغ الذي يجري فيه الماء، فهذا الأخدود هو النهر، والمقصود هنا في هذه الآية هو الماء الذي يجري في هذا الأخدود، فنسب الجري إلى الأنهار توسعاً، وإنما الذي يجري هو الماء وحده، فحذف اختصاراً، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:٨٢]، والمقصود: واسأل أهل القرية.

وقال الشاعر: نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كُلَيب المجلسُ يعني: أهل المجلس فحذف (أهل)، والنهر مأخوذ من أنهرتُ أي: وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم يصف طعنة طَعن بها عدواً له، فيقول: ملكتُ بها كفي فأنهرتُ فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها فقوله: (ملكت بها كفي) أي: سددت وقويت بها كفي، (فأنهرت فتقها) أي: أنه طعن هذا الرجل طعنة واسعة بحيث لو أن شخصاً وقف خلفه يرى من خلاله فيرى ما وراء المطعون.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوه)، يعني: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر، وجمع النهر: نُهُر وأنهار، ونهر أي: كثير الماء، وروي أن أنهار الجنان لا تجري في أخاديد، وإنما تجري على سطح الجنة منضبطة بقدرة الله حيث شاء أهلها، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ))، وهذا هو كل غايتهم وقصارها، أي: أن ينالوا المتع الحسية في الدنيا كأنهم أنعام، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:١٧٩]، فالذين كفروا يتمتعون في الدنيا كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، فهم ساهون عما في غدهم، فهل الأنعام تخطط للمستقبل، أو تفكر في المحيط؟ لا، فهي تتمادى في الشهوات، وهي لا تعلم أنها كلما استمرت في ذلك عُجِّل في ذبحها، لأن الناس يستحسنون عاقبة الذبح حينما يأكلون هذا اللحم السمين، فكذلك الذين كفروا غافلون عما ينتظرهم في العاقبة، وقيل: إن المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، ((وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)) أي: مقاماً ومنزلاً.

وقد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هنا في هذا السياق حديث الشيخين المتفق عليه، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو قال: كان أبو نهيك رجلاً أكولاً، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فقال: فأنا أؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أطبق العلماء على تأويل هذا الحديث، فالمشرحون إذا فتحوا بطن الكافر فإنهم لا يجدون أمعاءه سبعة أضعاف أمعاء المؤمن لذلك فأطبق العلماء على تأويل الحديث؛ لقرينة وهي قول أبي نهيك: فأنا أؤمن بالله ورسوله، يعني: لست كافراً.

فاختُلف في معنى هذا الحديث، فقيل: ليس المراد ظاهره، وإنما هو مثَل ضُرب للمؤمن وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله مادياً يأكل في مِعيٍّ واحد، والكافر لشدة رغبته فيها، واستكثاره منها، يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء، ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار منها، فكأنه عبَّر عن تناول الدنيا بالأكل، وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر.

وقيل: المعنى: أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود، نقله ابن التين.

وقيل المراد: حضّ المؤمن على قلة الأكل، إذا علم أن كثرة الأكل صفة للكافر فإن نفسه تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ))، وهذا مشاهد في أغلب الكفار وبالذات في الأمريكان كما رأيت، فهم شديدو الشره في الطعام بحيث أنك إذا رأيت الطعام الموضوع على المائدة تعجب كيف سيأكله رجل واحد مع أنه يصلح لعشرة أفراد، وإذا بهذا الكافر يلتهمه التهاماً، فهم يأكلون كميات ضحمة من الأكل! وقد لا يظهر ذلك عليهم؛ لأنهم يمارسون الرياضات، فهم شديدو الشره للطعام بطريقة عجيبة! فكأن الحديث يذكر أن كثرة الأكل والشره في الطعام صفة من صفات الكافر، فالمؤمن دائماً حريص على ألا يتشبه بالكافر، وينفر من صفات الكافر المختصة به، فهذا هو المقصود من الحديث: أن ينفَّر المؤمن الأكول من التشبه بالكافر، وقد تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله عليه السلام: (كف عنا جشاءك؛ فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة)، كما يقول الشاعر: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقد وصف سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه المشركين فقال: رأيت قوماً ليس لهم فضل على أنعامهم، فلا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم!.

فالأنعام معروفة بكثرة الطعام، والشره في تحصيل الشهوات، فهم كالأنعام، وليس لهم فضل على أنعامهم بعقل ولا حكمة، فلا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، أي: أن كل همهم ما يأكلونه ويلبسونه من المتاع والملاذ، قوله: (وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك)، يعني: من المسلمين، (ويشتهون كشهوتهم)، فالمؤمن لا ينخرط في تحصيل متاع الدنيا كالكافر؛ لأن الكافر سبب فعله هذا جهله بالله، وجهله بأحوال يوم القيامة وغير ذلك من الأضرار والأخطار، فإذا بدر منه ذلك فهذا لا يؤاخذ، وأما المؤمن الذي يعرف ما لا يعرفه هؤلاء من عاقبة الانخراط في الشهوات فلا ينبغي له فعل ذلك؛ فلذلك قال هنا: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ)).

وهناك قول آخر في تأويل الحديث السابق، وهو: أنه يحمل على ظاهره، فليس فيه تأويل، واختلف الذين قالوا: إنه باق على ظاهره في معناه على أقوال: أحدها: أنه ورد في شخص بعينه، فـ (ال) في كلمة (الكافر) تكون للعهد، أي: في شخص معين فلا تعمم، وجزم بذلك ابن عبد البر فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن، وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله.

قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيرا ً فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء).

ودُفع هذا القول بأن ابن عمر راوي الحديث فهم منه العموم، فقد قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا شعبة عن واسع بن محمد عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه، فأدخلت رجلاً يأكل معه، فأكل كثيراً، فقال: يا نافع! لا تُدخل هذا عليّ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فهذا يدل على أن ابن عمر راوي الحديث الأول يرى عموم هذا الحديث الذي رواه عن النبي عليه السلام، فهو لم يقصره على شخص بعينه، فقد عممه على هذا الرجل الذي أُتي به ليأكل معه.

وتعقِّب هذا القول أيضاً بأنه غير متفق مع تعدد الاستدلال بالحديث مع فرضية تعدد الواقعة، أي: أن القول بأنه ورد في شخص بعينه، وأن اللام عهدية هذا مدفوع بوقوع تعدد الا