[تفسير قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي)]
قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:١٥٧].
ثم أبدل تبارك وتعالى من الموصول الأول هذا الموصول أيضاً فقال: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ))، فالذين بدل كل من الموصول الأول، وهو منصوب على المدح أو مرفوع عليه، يعني: أعني الذين، أو هم الذين.
وقوله: (يتبعون الرسول) أي: الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم.
(النبي) يعني: لم الذي نبئ بأكمل الاعتقادات والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي.
(الأمي) يعني: لم يحصل علماً من بشر.
(الذي يجدونه مكتوباً) أي: باسمه: محمد وأحمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا نعته، ففي التوراة والإنجيل إما التصريح بأسماء الرسول عليه الصلاة والسلام، كمحمد وأحمد، أو بصفته ونعوته، (عندهم) زيد هذا لزيادة التقرير والتأكيد، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلاً، يعني: أن أي يهودي أو نصراني عنده وبين يديه هذا الكتاب الذي يقدسه فعنده صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو اسمه في كتابه، ولكن التحريف والتبديل أدى إلى عدم وجود لفظ صريح باسم الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كانت صفاته ما زالت حتى هذه اللحظة موجودة بين أيديهم رغم باعهم الواسع العظيم في التحريف والحذف والتبديل، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
وقوله: ((يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ))، وأعرف المعروف: الإيمان بالله ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق، وجميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع.
وقوله: ((وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ))، أي: الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق؛ لأن العقل والشرع ينكرانه.
وقوله: ((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ)) يعني: التي حرمت عليهم لمعاصيهم، كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:١٦٠ - ١٦١]، فعقوبة لهذه المعاصي حرمت عليهم أشياء كانت حلالاً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
فقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) يعني: التي كانت قد حرمت عليهم عقوبة لهم من قبل في كتبهم.
وقوله: ((وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)) أي: التي كانوا يتناولونها، كالخنزير والميتة والدم، وهذا في باب المأكولات، أما في باب التكاليف فقال: ((وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)).
والإصر هو: الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة، فهناك شرائع شاقة وعسيرة أيضاً كانت عليهم، والأغلال جمع غل، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد، أي: العهود الحرجة والمواثيق الشديدة.
والمقصود من قوله: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم): أنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء يخفف عنهم ما كلفوه من هذه الشرائع الحرجة والشديدة، وهذا في باب العبادات.
وقوله: ((فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ)) أي: بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَعَزَّرُوهُ)) يعني: عظموه ووقروه ((وَنَصَرُوهُ)) أي: على أعدائه في الدين فمنعوه منهم، ((وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ)) وهو القرآن الكريم، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه.
ومعنى (أنزل معه) أنزل مع نبوته؛ لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به؛ فكما نزل الوحي بالقرآن نزل أيضاً بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا أول تفسير لمعنى قوله: (واتبعوا النور الذي أنزل معه) يعني: أن النور هو القرآن الذي أنزل مع نبوته؛ لأن القرآن اقترن بتنبيئه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: (معه) تتعلق بـ (اتبعوا) القرآن المنزل مع اتباع النبي؛ لأن الآية فيها: ((فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ))، أي: اتبعوا النور (القرآن) مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون هنا إشارة إلى العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، وبما أمر ونهى عنه، فيكون أمراً بالعمل بالكتاب والسنة.
أو: هو حال، يعني: اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه، وفي التعبير عن القرآن بالنور إنباء عن كونه ظاهراً بنفسه لإعجازه، ومظهراً لغيره من الأحكام لمناسبة الاتباع.
وقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالرحمة والناجون من النقمة.