للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسألة إخلاف الوعيد من الله في حق العصاة والكفار]

وقوله تعالى: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} في هذه الآية الفرق بين الوعد والوعيد، وذلك بأن الله قد يخلف الوعيد، لكن لا يمكن أبداً أن يخلف وعده سبحانه، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده، وإخلاف الوعيد يكون في حق المسلم أما في حق الكافر فلا.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب.

أي: يتحتم ويثبت في حقه ثبوتاً لا يمكن أن يتخلف.

وهذا دليل واضح على ما قاله بعض أهل العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده؛ لأنه قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:٩]، لكن لم يقل: إن الله لا يخلف الوعيد، فبعض العلماء بنوا على ذلك أن الله سبحانه وتعالى يصح أن يخلف وعيده هكذا وتركوها مطلقة، وقالوا: إن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد، وأن الشاعر قال: وإني إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي.

يمدح نفسه بأنه يخلف الوعيد، لكنه ينجز الوعد.

لكن لا يصح الإطلاق بحال؛ لذلك يقول الشنقيطي: إن القول أن الله يصح أن يخلف وعيده مطلقاً قول غير صحيح؛ لأن وعيده تعالى للكفار حق، ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل، كما قال الله سبحانه وتعالى هنا: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)).

وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله: سها فسجد، يعني: فسجد بسبب سهوه، أو لعلة سهوه، أو سرق فقطعت يده، يعني: لعلة سرقته قطعت يده.

ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:٣٨] فالفاء هنا للسببية، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق واجب عليهم، فدعوى جواز أن يخلف الله الوعيد على الكافر باطلة بلا شك، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات أخر، كقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:٢٨ - ٢٩]، فإذا حق عليهم قول الله بالعذاب، فلا يمكن أن يبدل قول الله.

فالتحقيق أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:٢٨ - ٢٩].

وقال تعالى في سورة ص: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:١٤].

فإذاً: الوعيد هنا لا يمكن أن يتخلف؛ لأن العقاب حق بسبب أنهم كذبوا الرسل.

وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين؛ بتعديهم على كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨].

فالذي يمكن أن يتخلف عنه الوعيد عصاة الموحدين الذين ماتوا على التوحيد، وقد تلبسوا ببعض الكبائر دون أن يتوبوا منها؛ أما إذا تابوا فإن التوبة تقبل إذا استوفت شروطها.

يقول الإمام ابن جرير: إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلال عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل، ترهيباً منه بذلك مشركي قريش.

يعني: إياك أعني واسمعي يا جارة.

أي: فقوله: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) فيه ترهيب لمشركي قريش ألا يكون مصيرهم مصير هؤلاء الذين حق عليهم الوعيد من الأمم السابقة المكذبة، وإعلام منه لهم أنهم إن لم يتوبوا من تكذيبهم رسولهم محمداً صلى الله عليه وسلم أنه محل بهم من العذاب مثل الذي حل بالأمم السابقة.