نقف وقفة مع هذه الآية الكريمة:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[الفتح:٢٨] أكثر المفسرين على أن الهاء في قوله: (ليظهره) راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: ليظهر رسوله عليه الصلاة والسلام، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق، يعني: يظهر دين الحق على الدين كله، أي: أرسل الرسول بالدين الحق ليظهر الدين الحق على كل الأديان، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للإظهار هو الله سبحانه وتعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره يعني: ليظهر الله هذا الدين، أو ليظهر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الدين، وجوز غير واحد -وهو الذي استظهره الآلوسي رحمه الله تعالى- أن يكون المعنى: ليظهر الله الإسلام على الدين كله في تسليط المسلمين على جميع أهل الأديان، وقالوا: ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون، ويكفي في ذلك استمرار ما ذكرنا زماناً معتداً به كما لا يخفى على المطلعين على كتب التاريخ والوقائع، وقيل: إن تمام هذا الإعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي حيث لا يبقى حينئذ سوى دين الإسلام.
ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر إلا لنحو ما سمعت، وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء.
وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد الله تعالى به من الفتح، وتوطيد لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم البلاد، ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة، فيظهره على الدين كله، فكلمة (كله) بشارة لما هو أعظم وأكبر من فتح مكة؛ لأن مكة مدينة واحدة، لكن الآية فيها إشارة إلى أن البلاد كلها سوف تفتح بالإسلام.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}[التوبة:٣٣]، ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكره في سورة التوبة وسورة الصف، وزاد فيهما أنه فاعل ذلك ولو كان المشركون يكرهونه، فقال في الموضعين:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[الصف:٩]، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة، وكان صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وأشراف قريش قد اجتمعوا بالحجر وقالوا: ما رأينا مثل صبرنا على هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فلما مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول، فعرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، وفعلوا به ذلك ثلاث مرات فوقف فقال:(أتسمعون يا معشر قريش؟! أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح) يعني: بالسيف، فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف -يا أبا القاسم- راشداً، فوالله! ما كنت جهولاً.
وقال محمد بن كعب: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا جهل يقول: إنكم إن بايعتموه عشتم ملوكاً، فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وإنكم إن خالفتموه كان لكم منه الذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم نار تعذبون فيها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقال:(وأنا أقول ذلك: إن لهم مني لذبحاً، وإنه لآخذهم).
فالإخبار بظهور الإسلام وعلوه على العالمين كان في ذلك الوقت مستقبلاً، يعني: حينما نزلت هذه الآية ونحوها من الآيات، وحينما نطق النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث التي سنشير إليها، كان هذا إخباراً عن المستقبل، والمستقبل مجهول للإنسان، فإذا تصوره كان تصوره مجرد توقعات قد تعتمد على مقدمات تؤدي إلى نتائج، ومهما أوتي الإنسان من صدق الحدس وقوة الإدراك، فإنها لا تزيد على كونها مجرد توقعات، وأما في حالة عدم وجود مقدمات، كان توقع حصول النتائج مجرد عبث وتخرص وتوهم، ووقوعه في هذه الحالة هو من قبيل ما يسميه البعض بالمصادفات وعدم وقوعها هو الأصل.
أحد العلماء من باكستان ألف كتاباً جرده لذكر مئات الأخبار عن النبي عليه السلام بأمور مستقبلية كلها أو معظمها وقع تماماً كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا ما تحدث إنسان عن المستقبل بتفاصيل مسهبة ولم يخرمها المستقبل حتى ولا في جزء من أجزائها، مع كثرة أعدائه المتربصين الحريصين على الطعن في صدقه، إذاً لابد من استبعاد التوقعات والتكهنات والنبوءات الكاذبة، واستبعاد ما كان مبيتاً، واستبعاد ما تحقق بعضه وكذب بعضه، واستبعاد ما كان عن منام وقع أو كرامة صالح، ولكن صدق الإخبار عن المستقبل المجهول الذي يتحقق تحققاً تاماً فهذا بلا شك نبوة لا شك فيها، وهو الوحي الذي يصل عالم الغيب بعالم السماء، قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[الجن:٢٦ - ٢٧]؛ فلذلك كان الإخبار بالبشارات التي تتعلق بظهور دين الإسلام في وقت كان المسلمون فيه في أشد مراحل الضعف، وكان النبي عليه السلام مع ذلك يجزم ويقطع بالتمكين لهذا الدين؛ دليل من دلائل النبوة.