[تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)]
يقول تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:١٤٠].
((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا))، الأيام دول يوم لك ويوم عليك.
وسنة الحياة عدم ثبات الأحوال، لكن العاقبة للمتقين، فلابد من استحضار هذا عند الابتلاء.
في هذا الزمان الذي عم فيه الظلم وطم، وتحققت فيه كثير من أشراط الساعة على يد أعداء الدين، فما على المسلم إلا أن يستحضر مثل هذه الآيات: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:١٠٤]، لكن الفارق هو أنكم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:١٠٤]، مهما اشتدت المحن بالمؤمن، فما عليه إلا أن يفزع إلى الله ويستعمل سلاح الدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى؛ لأن الله سبحانه هو نصير للمؤمن ومولى لهم قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:١١]، وقال عز وجل: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:٧١] يكفي أن المدد مقطوع بين الظالم وبين الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما بينه وبين الله خراب ودمار.
إذاً: يكفي المؤمن في البلاء أن يفزع إلى الله؛ ولأن الحبل بينه وبين الله متصل، وإذا فزع إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله يمده بنصره وبمعونته، كما ذكرنا من قبل: أن قوة المؤمن ليست في عضلاته، بل في قلبه واتصاله بربه.
وهذا حديث يطول، ويكفي أن نتذكر قصة غلام أصحاب الأخدود، فقوة المؤمن تكون في قلبه أساساً، ولا ينافي أن يكون المؤمن قوياً في بدنه.
إذاً: المؤمن قوته تكون في قلبه، بتوكله وثقته بالله تبارك وتعالى، يقول عز وجل هنا: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) إذاً: ليس جديداً علينا هذا الذي يحصل من البلاء للمسلمين الآن، وليس أمراً مفاجئاً ولا بغتة ولا فلتة، وإنما هي سنة الله التي لابد أن تمضي، ولابد أن يخضع لها جميع الخلق، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابتهم القروح والآلام في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيل الله وابتغاء مرضاته.
((وَتِلْكَ الأَيَّامُ))، أي: أيام هذه الحياة الدنيا.
((نداولها بين الناس)) أي: نصرفها بينهم، تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، فهي عرض حاضر يقسمها بين أوليائه وأعدائه، (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، بلا شك أننا الآن نستحضر هذا الحديث أكثر من أي وقت مضى، فالدنيا سجن المؤمن انظر كيف يكون حاله في السجن، فإذا خرجت روحه انطلق إلى الرحب والسعة، وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى والنعيم.
فالمؤمن لابد أن يستحضر هذا الأمر؛ لأن الدنيا هي جنة بالنسبة للكافر، وهي في نفس الوقت سجن بالنسبة للمؤمن؛ لأنه مقيد بالأوامر والنواهي، مقيد بالبلاء وبحرب أعداء الدين وأعداء الله تبارك وتعالى.
هذه سنة الله التي لن تتبدل ولن تتخلف، حتى الذي يتنازل عن دينه كي يخفف عن نفسه من وطأة هذا السجن، وكي يطلب العافية لن ينال العافية، بل سيكون أول من يعذبه هذا الذي ترك دينه من أجله، فإن الله قضى قضاء مبرماً محكماً لا ينقض ولا يخلف، أن من أطاع غيره أو أحب غيره في معصيته عذبه به ولابد، والأمثلة لا تكاد تنتهي، كم رأينا من جبار في الأرض قام بتعذيبه وزير من وزرائه، كأن ينقلب عليه بعد ذلك، أو يقتله أو يعذبه أو يسجنه أو يحاكمه، وكم رأينا من أناس شرعوا قوانين لقهر الناس وإذلالهم، ثم كانت هذه القوانين وبالاً عليهم، فمن حفر حفرة لأخيه وقع فيها، فهي سنة الله لن تتخلف أبداً: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠].