تفسير قوله تعالى: (رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج)
يقول الله تبارك وتعالى: {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق:١١]، أي لأجل أن يرزق العباد منها.
قال أبو السعود: هذه علة لقوله تعالى: ((فَأَنْبَتْنَا)) في قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْل َ)) [ق:٩ - ١٠].
أي: بعد تعليل قوله: (فأَنْبَتْنَا) بالتبصرة والتذكير؛ ليتأمل الإنسان ويتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، جاء التعليل الثاني لقوله: (فَأَنْبَتْنَا) بأنه رزق للعباد، وهذا تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستذكار أهم من تمتعه به من حيث الرزق.
ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة في جملة من الآيات: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:٧١ - ٧٣].
أي: تذكرة أولاً ومتاعاً ثانياً.
فإذاً: الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بهذه المخلوقات والنعم أساساً من حيث التذكر والاستبصار، فيتأمل في إبداع الله عز وجل في خلقه، وكيف أن هذه الآيات تدل على رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، وعلى قدرته وعلمه وحكمته، فالانتفاع بهذه الأشياء من حيث التذكر والاستبصار ينبغي أن يكون أهم من تمتعك بها من حيث الزرق والقوت والطعام، فلذلك قدم في الأولى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:٧ - ٨].
ثم قال: ((رِزْقًا لِلْعِبَادِ)).
((وَأَحْيَيْنَا بِهِ)) أي: بذلك الماء.
((بَلْدَةً مَيْتًا)) أي: أرضاً جدبة، فأنبتت أنواع النبات والأزهار.
((كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)) أي: خروجهم أحياء من القبور.
فشبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى على إخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها.
نعم هناك فرق بين الحياة النباتية والحياة الحيوانية، ومع ذلك فالنبات يمارس كل وظائف الحياة، فهو يأكل ويتغذى ويتحرك وإن كان هذا شيئاً غير ظاهر، لكن معروف أن بعض النبات يتحرك، وبعض النباتات قد تفترس الفريسة بأن تحتضنها ثم تمتصها بعد ذلك، هناك بعض النباتات المتوحشة تفعل ذلك بالحشرات.
إذاً: فعامة طبيعة الحياة موجودة في النبات، ما عدا الحركة التي هي فرق ظاهر بين الحيوان وبين النبات.
كذلك إنبات الأرض بالنبات هي عملية إحياء الأرض بعد موتها، وهذا الإنبات لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، لذلك قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:٦٤] فالزارع في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ونحن نقوم بالحرث فقط: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:٦٣]، فنحن نأخذ بالأسباب، لكن قوة الإنبات لا تحصل إلا بقوة الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقوله: ((كذلك الخروج)) معناه أن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها بالإنبات قادر على أن يخرجكم من هذه الأرض بعد أن تضل فيها أجسادكم وتذوب.
وكما نعلم أن هذا أحد الأدلة من القرآن الكريم على ثبوت البعث والنشور؛ لأن القرآن الكريم كثيراً ما يلفت نظرنا إلى أن من أدلة البعث والنشور إحياء الأرض بعد موتها.