للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)]

قال الله تبارك وتعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:١٠٦].

قوله عز وجل: (ما ننسخ من آية) (ما) شرطية، ولذلك جزمت فعل الشرط وجواب الشرط، والنسخ هو الرفع والإزالة، تقول: نسخت الشمس الظل، أي: أزالت الظل، فقوله تعالى: (ما ننسخ من آية) أي: ما نُزل حكم آية، من الإزالة.

والنسخ على أنواع: إما أن يرفع حكم الآية لكن يبقى اللفظ، وإما أن يبقى الحكم ويرفع اللفظ، وهو ما يعرف بنسخ التلاوة، ولذلك يقول السيوطي: (ما ننسخ من آية) أي: نُزِل حكمها إما مع لفظها أو لا، وفي قراءة بضم النون (ما ننسخ) من أنسخ، فيكون تفسيرها على هذه القراءة: ما نأمرك أو نأمر جبريل عليه السلام بنسخها.

(أو نَنْسَأْها) وفي القراءة الأخرى: (أو نُنْسِها) وعلى قراءة (ننسأها) من النسأ، أي: نؤخرها، فلا نزل حكمها ولكن نرفع تلاوتها، أو نؤخرها في اللوح المحفوظ، وفي قراءة بلا همز (أو ننسها) أي: من النسيان، أي: نمحها من قلبك.

وجواب الشرط قوله تعالى: (نأت بخير منها) أي: أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر.

(ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ومما يشمله عموم قدرته: النسخ والتبديل، والاستفهام هنا للتقرير، والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية: (ما ننسخ من آية) أي: ما نبدل من آية بغيرها، كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن، (أو ننسها) أي: نذهبها من القلوب، كما أخبر بقوله: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:١٣] وقرئ: (أو ننسأها) أي: نؤخرها ونتركها بلا نسخ، كما أبقى كثيراً من أحكام التوراة في القرآن، وعلى هذه القراءة الثانية: (أو ننسأها) نشر على ترتيب هذا اللف، قوله: (نأت بخير منها) أي: من المنسوخة المبدلة، وذلك كما فعل في الآيات التي شرعت في هذه الملة الحنيفية، شرع فيها اليسر ورفع الحرج والعنت، فكانت خيراً من تلك الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وجاء فيها اليسر والسماحة، ورفعت الآصار والأغلال كما جاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:١٥٧]؛ لأن بني إسرائيل شرعت لهم أحكام مغلظة عقوبة لهم وتأديباً، فرفعت في هذه الملة السمحة الحنيفية (أو مثلها) أي: مثل تلك الآيات الموحيات من قبل، فيوحي الله عز وجل إلى نبيه مثلما أوحى من قبل، كما يرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتضت الحكمة بقاءه واستمراره، مثل قول الله تبارك وتعالى في سورة الأعلى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:١٨ - ١٩] ويقول تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥] إلى آخره.