للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم)]

قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:٦].

قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}، أي: مهلك نفسك، {عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ}، أي: بهذا القرآن، (أسفاً) أي: للتأسف على توليهم وإعراضهم عنه، والأسف: فرط الحزن والغضب.

و (لعل) للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، يقول القاسمي: (لعل) هنا استعارة.

أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك، فمن شدة شفقته على الكافرين المعرضين عن القرآن الكريم، والذين سوف يهلكون بالنار إن استمروا على هذا الكفر، وصل إلى حالة يتوقع المشركون أنه سيموت غماً وأسفاً وحزناً وأسى.

إذاً (لعل) تكون للترجي؛ لكن ليست هنا للترجي، بل للطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس أنك مهلك نفسك بسبب هذا الحزن لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم، وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتسجيل حاله معهم وقد تولوا وهو آسف من عدم هدايتهم بحال من فارقته أحبته فهم بقتل نفسه، أو كاد يهلك وجداً عليهم وتحسراً على آثارهم.

فكل ذلك كما قال القاسمي: إن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه، ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله تعالى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤]، وكلما كانت محبته للحق أقوى كان شفقته ورحمته على خلقه أكثر؛ لكون الشفقة عليهم ضمن محبته لله، وأشد تعطفه عليهم، فإنهم كأولاده وأقاربه بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي، فلذلك بالغ في التأسف عليهم حتى كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، فهو لا يسألهم أجراً ولا يريد منهم جزاء ولا شكوراً، إنما يريد لهم السعادة والنجاة، ويشفق عليهم من عذاب الله، كما صرح صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فقال في الحديث المتفق عليه: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، فأخذ يذبهن بيده وهن يتقحمن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي).

هذا تصوير لحاله صلى الله عليه وسلم مع الخلق، فهو من شدة الشفقة والرحمة لهؤلاء الخلق يشفق عليهم من العذاب فمن هلك يهلك رغماً عنه، وهو يحاول أن ينقذه بقدر الاستطاعة صلى الله عليه وسلم، فشبه حاله بحال رجل أوقد ناراً في الظلام، والفراشة ليس لها عقل فإذا رأت ضوءاً في الظلمة، ظنته كوة تنفذ إلى الضياء في الخارج، مثل أي نافذة في غرفة مظلمة تنفذ إلى نور الشمس في الخارج، فتريد أن تخرج إلى الضياء فتنجذب إليه، فإذا نفذت ظنت أنها قد بعدت عن هذه الفتحة، فتعود من جديد لهذا الضوء، فإذا بها تطالها النيران وتحرقها، فهذا الرجل من شدة شفقته على هذا الفراش الذي ليس عنده عقل، جعل يذبهن بيده؛ فيشبه النبي عليه الصلاة والسلام نفسه مع هذه الأمة -أمة الدعوة- أنه واقف على شفير جهنم، وهم يندفعون إليها بأقصى قوتهم، ويلقوا أنفسهم في النار وهو مشفق عليهم من هذا المصير، فجعل يذبهم ويدفعهم بيده، ليمسك بهم بأي طريق، ولو عشوائية.

(وأنا آخذ بحجزكم عن النار)، الحجزة: موضع الخصر وفيها مركز ثقل الإنسان، فهو يحاول أن يمسكهم لأجل أن ينقذهم من النار، لكنهم يقاومونه ويلقون بأنفسهم في النار، فهذه صورته عليه الصلاة والسلام التي وصلت إلى حد أنه يكاد يهلك من شدة الحزن والشفقة عليهم أن يهلكوا في النار؛ فهل توجد رحمة بالبشرية أعظم من هذه الرحمة؟ لا توجد على الإطلاق، ولذلك فإن عدو البشرية كلها هو الذي يشوه الإسلام أو يصد الناس عنه، لأنه يحرمهم من أعظم حق من حقوق الإنسان.

هؤلاء الضالون الكفرة: أمريكا ومن معها يتعلقون بشماعة حقوق الإنسان لاستذلال الأمم وقهرها، لكنهم أفلسوا تماماً، فأعظم حق من حقوق الإنسان أن لا يحال بينه وبين السعادة الأبدية وأن ينقذ من الموت، ومن الخلود فيها، والحياة في النار عذاب أليم بشع شنيع بلا نهاية، قال النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه النار: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، يعني: نار الآخرة أقوى من النار التي في الدنيا سبعين مرة، هل الإنسان يطيق حمل كوب من الشاي؟ لن يستطيع الإنسان، هل سيقرب بدنه إلى النار بواحد على سبعين، فما بالك بهذا العذاب الرهيب الذي وصفه الله سبحانه وتعالى، وهذا كلام حقيقي وسيقع قطعاً، فالنار موجودة الآن وتنتظر سكانها والعياذ بالله.

فالشاهد أن الموضوع خطير، والدعوة الإسلامية ما هي إلا إنقاذ للبشرية، وكما أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن، وأرسل الرسول وجاهد الصحابة لحمل هذا النور إلى العالمين، فيحاول هؤلاء الكفار أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى بكل الأساليب القذرة، تارة بتسليط خبيث مصر سلمان رشدي، وتارة بالتشنيع على الإسلام ليل نهار، والإعلام الآن في العالم كله معه، ليس له شغل غير التشنيع على الإسلام والغمز واللمز، وتسليط وكلائهم ونوابهم من العلمانيين والصحفيين الفجرة بالطعن في الدين ليل نهار، كل هؤلاء يتآمرون على البشرية، وهم يضيعون أعظم حق من حقوق الإنسان وهو -على الأقل- أن يطلع على الإسلام في صورته الصحيحة، لكنهم يشوهون لأنهم (يبغونها عوجا) يصورون (سبيل الله) على أنها طريقة معوجة.

هذا كله جريمة في حق البشرية كلها؛ لأنه وضع حواجز دون إنقاذ الناس من النار، ودون الفوز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، فهل هناك حق للإنسان أعظم من هذا؟ هؤلاء هم الذين يضيعون حق الإنسان.

فانظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء القوم مع كفرهم، قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:٧٤ - ٧٥]، لا يخفف عنهم أبداً، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧]، أعظم أمنية أن يموتوا حتى يتوقف العذاب، ولكن انظر إلى

الجواب

{ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:٧٧ - ٧٨].

فإذاً المصير خطير جداً، الدنيا أيام وتنقضي مهما طال العمر، ثم يكون الإنسان إما إلى الجنة في سعادة أبدية، وإما في شقاء أبدي لا يتوقف، فلو قلنا حضارة فرعون لها سبعة آلاف سنة إلى الآن، وقال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر:٤٥ - ٤٦]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦] فمعناه أنه منذ سبعة آلاف سنة وهو يعرض غدواً وعشياً على النار، وكم عاش، وكم كان عمره؟ مائة سنة، مائتين سنة، فالعذاب أطول بكثير، ثم انظر إلى الخلود؛ لأنه كان ينوي الكفر إلى الأبد، ولذلك عاقبه الله بعذاب مؤبد بلا نهاية، فالأمر جد خطير، ولذلك أوصي نفسي وإخواني بأن يتأملوا قليلاً في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:٢٣] سواء كانت في حق أهل الجنة أو في حق أهل النار؟ فالأمر في غاية الخطورة، ولو أن الإنسان تفكر فيه لما أكل ولا شرب ولا نام ولا هناه عيش.

قوله عز وجل: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم).

يقول الشنقيطي: اعلم أولاً أن لفظة (لعل) تكون للترجي في المحبوب، وللإشفاق في المحذور، واستظهر أبو حيان في البحر المحيط: أن لعل في قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك)، للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به.

يعني كأن ربنا سبحانه وتعالى يقول له: أنت تهلك نفسك شفقة عليهم، فليست (لعل) للشك، وإنما هي مقدرة بالاستفهام الذي يعنى به التقرير، فالمعنى: هل أنت قاتل نفسك؟ لا ينبغي أن يطول أسفك على إعراضهم فإن من حكمنا عليه بالشقوة لا تجدي عليه الحسرة.

وقال بعضهم: إن (لعل) في الآية للنهي، وممن قال به العسكري، وعلى هذا فالمعنى: لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم، وقيل: هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار.

يقول الشنقيطي: وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى (لعل): أن المراد بها في الآية النهي على الحزن عليه.

يقول: إن إطلاق (لعل) مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام، ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك: كثرة ورود النهي صريحاً عن ذلك، كقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:٨])، ويقوي هذا المنحى وجود النهي عن أن يقتل نفسه حسرة عليهم في آية أخرى، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل:٧٠]، وقال تعالى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:٦٨] إلى غير ذلك من الآيات.

والباخع: المهلك، أي: مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم، ومنه قول ذي الرمة: ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحته عن يديه المقادر أي: الذي سيهلك الحزن نفسه.

وقوله: (على آثارهم) قال القرطبي: الآثار جمع أثر.

ويقال: إثر، فالمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك.

وقال أبو حيان في البحر: ومعنى (على آثارهم) من بعدهم، أي: بعد يأسك من إيمانهم، أو بعد موتهم على الكفر، يقال: مات فلان أثر فلان.

أي: بعده، أو: (لعلك باخع نفسك على آثارهم)، يعني: أنت تحزن عليهم بعد ما ماتوا على الكفر، {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:٦٨] فهم لا يستحقون ذلك.

قال الزمخشري: شبهه وإياهم حينما تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما دا