تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً)
قال الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:٤١].
لما توعد الله تبارك وتعالى من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر؛ أتبعه بهذا الأمر الجازم، فقال سبحانه وتعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله).
(خفافاً وثقالاً) إعرابها: حالان من ضمير المخاطبين من الواو، أي: انفروا على أي حال كنتم، خفافاً لنشاطكم لهذا النفور، وثقالاً عنه لمشقته عليكم.
أو: انفروا خفافاً: لقلة عيالكم وأذيالكم، أو ثقالاً: لكثرتها.
أو: خفافاً: من السلاح، وثقالاً منه.
أو: خفافاً وثقالاً: ركباناً ومشاة.
أو: خفافاً وثقالاً: شباباً وشيوخاً.
أو: خفافاً وثقالاً: مهازيل وسماناً.
واللفظ الكريم يعم ذلك كله، والمراد: انفروا حال سهولة النفر وحال صعوبته.
وقد روي عن ثلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط، ويستشهدون بهذه الآية، وفريق من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون أن هذه الآية محكمة، وأنها تفرض الجهاد والغزو فرضاً عينياً على كل مسلم، ولم تعذر أحداً في التخلف عن الجهاد، ولذلك كانوا لا يتخلفون أبداً عن غزوة من الغزوات.
ولما كانت البعوث إلى الشام قرأ أبو طلحة رضي الله تعالى عنه سورة براءة، حتى أتى على هذه الآية فقال بمجرد أن سمع هذه الآية: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بني! مع أنه كان شيخاً كبيراً، فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فقال: ما سمع الله عذر أحد يعني: ما استجاب الله عذر أحد؛ لأن الله قال: (خفافاً وثقالاً)، فشملت جميع المسلمين، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه.
وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ويقول: فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاماً واحداً.
وقال أبو راشد الحراني: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فطن عنها يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال: أتت علينا سورة البعوث: (انفروا خفافاً وثقالاً).
وعن حيان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً هرماً من أهل دمشق على راحلته فيمن أراح، قد سقط حاجباه على عينيه، يعني: رآه على راحلته مع أنه كان شيخاً كبيراً، وسقوط الحاجب على العينين يكون في حالة الشيخوخة المتأخرة جداً.
يقول: فأقبلت عليه، فقلت له: يا عم! لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن أخي! استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل.
روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله.
فرحم الله تلك الأنفس الزكية! وحياها من بواسل باعت أرواحها في مرضاة ربها وإعلاء كلمته، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية! أيها الإخوة! الحديث ذو شجون في هذا الموضع بالذات، ولولا أننا نلتزم بالاجتهاد بالاختصار حتى ننجز القدر المطلوب إنجازه، لأفضنا في تفصيل الكلام، ومقارنة أوضاع المسلمين التي ما كان أي مسلم من قبل يتصور أو يحلم مجرد حلم في المنام أننا سنصل إلى هذا المستوى الذي نحن فيه الآن، ليس فقط من ناحية التقاعس عن الجهاد والاستسلام والتخاذل أمام أعداء الله سبحانه وتعالى وأعداء الدين، وإنما أيضاً تغيير المفاهيم لدى الناس حتى صارت قضية الجهاد قرينة لرمي الناس بالتطرف والعنف والإرهاب.
إلى آخر هذه المسميات.
روى الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أن بعض الملوك عاهد كفاراً على ألا يحبسوا أسيراً من أسرى المسلمين، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: إني أسيرة، صرخت هذه المرأة من وراء هذا البيت وقالت له: إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري، فلما عاد إلى الأمير، واستطعمه عنده، وتجاذبا أطراف الحديث، ففي أثناء الكلام انتهى الخبر إلى هذه المرأة المعذبة، فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه، وخرج غازياً من فوره، ومشى إلى الثغر، حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع -رحمه الله تعالى- وحرر هذه الأسيرة!! ومواقف المسلمين في ذلك معروفة، لا أقول في الصدر الأول ولكن حتى إلى عهد قريب، فالدولة العثمانية رغم أنها كانت في حالة ضعف شديد، إلا أنه كان لها من الهيبة والصولة والجولة ما هو معلوم، حتى كان المندوب العثماني إذا نزل في إحدى العواصم الأوروبية يمتنعون عن دق أجراس الكنائس احتراماً له، وفي نفس الوقت خوفاً من أن يغضبوه إذا سمع صوت الأجراس فيؤدبهم.
وقرأت في كتاب تاريخ الدولة العالية لـ محمد فريد في أحد الخطابات: أن مندوب إحدى الدول الأوروبية -لعلها المجر أو نحوها- ذهب للخليفة العثماني، وطلب منه طلباً معيناً: أن يحمي بلاده، أو أن يحسن إليهم، أو شيء من هذا، فمقدمة الرد السلطاني أو الباب العالي -كما كانوا يسمونه- بدأ بذكر مقدمة طويلة من الجواب يقول فيها: إن الغازي ابن الغازي ابن سليل المجد كلها مجد وتفخيم واستعلاء من هذا الكاتب، وفي النهاية جملة قصيرة، بعد أن مدح الخليفة بهذه المدائح الطويلة جداً، انتهت بقوله: فقد رأى -يعني: جلالة السلطان المعظم- أن ينظر إلى طلبكم بعين الشفقة، واستجاب لهذا الطلب، وأنعم عليكم بتلبيته.
هذا موجود في تاريخ الدولة العالية.
فالشاهد: أننا بعد هذا العز انظر كيف حولوا تركيا التي كانت مركز خلافة الإسلام إلى بؤرة فساد، وشر على مجاوريها من البلاد الإسلامية، المهم أن واقعنا في الحقيقة مؤلم إلى حد يجب فيه أننا نتحسر على هذا الواقع، تماماً كما تحسر القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى حين قال: ولقد نزل بنا العدو قصمه الله سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر خيراتنا، وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده، وكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه -نصح الحاكم والرعية-: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، يعني: أراد أن يشجع الوالي والرعية، فقال لهم: أي فرصة أحسن من هذه الفرصة، صار الأعداء موجودين داخل دياركم في الشبكة، والإمام القاضي أبو بكر بن العربي رجل أديب، على أرقى مستوى من الأدب، فانظر كيف كان تناوله مثل هذه القضايا بأسلوبه العذب البليغ.
يقول: فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس، حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له؛ فغلبت الذنوب، ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، -الوجار هو: جحر الضبع- وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم رغب تبارك وتعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبعدما قال: (انفروا خفافاً وثقالاً) قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:٤١].
وفي اسم الإشارة: (ذلكم) إشارة إلى النفير والجهاد، وفي معنى البعد الإيذان بأن منزلته رفيعة لبعد منزلته بالشرف، والمراد بكونه خيراً: أنه خير في نفسه أو: خير من الدعة والتمتع بالأموال.