[تفسير قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية)]
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:٣٥].
هذه الآية وردت بعد قوله تبارك وتعالى: (وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:٣٢ - ٣٥] فكأن هذه الآية واردة في سياق بيان سبب استحقاقهم للعذاب.
فقوله: ((وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) هذا سبب لاستحقاقهم العذاب، وقوله: ((وما كان صلاتهم إلخ)) سبب آخر، أي: وما لهم ألا يعذبهم الله وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية، فتكون الجملة معطوفة على قوله: ((وهم يصدون)).
والمكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق بالأكف، روى ابن أبي حاتم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حكى فعلهم فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضاً قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفرون، ويصفقون.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفرون، ويصفقون.
وعن مجاهد: أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته.
يعني: أن بعض كفار قريش كانوا يصفرون ويصفقون؛ حتى يشوشوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المسجد الحرام.
وقال الزهري: يستهزئون بالمؤمنين.
يعنى: بدل أن يصلوا لله عند المسجد الحرام كانوا يفعلون هذه الأفاعيل ليؤذوا المؤمنين.
فإذاً: تكون هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: ((وَهُمْ يَصُدُّونَ))، في سياق تقرير استحقاقهم العذاب، أو تكون معطوفة على قوله تعالى: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ)).
وعلى هذا تكون تقريراً وبياناً لأسباب عدم استحقاقهم ولاية البيت الحرام.
وقوله: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ))، أي: لأنهم ليسوا من المتقين، ولأن صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، فمن ثمَّ لا يستحقون ولاية المسجد الحرام.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قول الفرزدق: وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً فـ (أخشى) هنا بمعنى: أعلم؛ فالخشية تطلق على العلم كثيراً؛ لأن العلم سببه الخشية.
فقوله: (وما كنت أخشى) يعني: ما كنت أعلم أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً.
والأداهم: جمع أدهم، وهي الحيات السود، لكن المقصود هنا القيود، وكأنه يقول: بدل أن يكافئني أعطاني القيود وأوثقني.
والمحدرجة السمر هي السياط، أي: جلدني وقيدني بدل أن يعطيني عطاءً ويهبني هبة.
وكذلك هؤلاء بدل أن يصلوا لله حول الكعبة بالركوع والسجود والتسبيح، إذا بهم جعلوا صلاتهم التصفير والمكاء والتصدية، فقول الفرزدق: وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً والمعنى: أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، وكفار قريش وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، فهذا من نفس هذا الباب، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته؛ لكي يخلطوا عليه.
قوله تعالى: ((فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))، أي: بسبب كفركم اعتقاداً وعملاً، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت والذي فيه استهزاء بالكعبة وبالصلاة وبالمؤمنين كفر؛ لأنه عقب قوله تعالى: ((وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية)) بقوله: ((فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)).
ولا يفهم من هذا أن المكاء والتصدية يمكن أن تكون صلاة أو يمكن أن تكون عبادة يتقرب بها إلى الله، وإنما المقصود ذم التشويش على المصلين أو السخرية والاستهزاء؛ ولذلك قال: ((فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))، وهذا فيه إشعار بأن هذا الفعل كفر؛ لأنه استهانة بشعائر الله سبحانه وتعالى وسخرية بها.
والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل ومن السبي، كما قاله غير واحد من السلف، واختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.
قال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه هؤلاء المشركين.
ومن خصائص الصوفية أنهم وضعوا ما يسمونه ذكراً وليس ذكراً، إنما هو غفلة عن الله سبحانه وتعالى، ونسيان له وليس ذكراً، وإلا فهذا كان شأن المشركين، وهاهو القرآن الكريم يعاتبهم على ذلك.