[تفسير قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين إن لكم لما تحكمون)]
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم:٣٥ - ٣٩].
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} يعني: في الكرامة والمثوبة الحسنى والعاقبة الحميدة.
ثم وبخهم الله تبارك وتعالى فقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} يعني: كيف تحكمون بما ينبو عنه العقل السليم؛ فإنهما لا يستويان في قضيته؟ العقل السليم يحكم بأن المسلمين ليسوا كالمجرمين، ولا يمكن أن يستويا، فكيف تحكمون هذا الحكم الأعوج، وكأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه أن لكم من الخير ما للمسلمين.
{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} أي: ألكم كتاب تجدون فيه أن الموحد كالمشرك والمطيع كالعاصي.
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} يعني: لما تختارون وتشتهون، أو إن لكم فيه من الأمور ما تختارونه لأنفسكم وتشتهونه لكم، كقوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:٤٠] أعندهم كتاب من الله أو عندهم صك فهم على بينة منه؟ وهذا توبيخ لهم وتقريع فيما كانوا يقولون من الباطل ويتمنون من الأماني الكاذبة.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي: إن لكم في هذا الكتاب إذاًَ ما تخيرون، والمقصود: ليس لكم ذلك.
ثم زاد في التوبيخ فقال: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}.
(أم لكم أيمان) أي: عهود ومواثيق (علينا بالغة) يعني: مؤكدة، والبالغة: المؤكدة بالله تبارك وتعالى، أي: أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة.
((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)) كأن هذه العهود أو هذه المواثيق فيها الحلف ((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)) يعني: ما تدعون، والمقصود: ليس الأمر كذلك، بما أنه ليس لكم كتاب أو ليس لكم أيمان على الله سبحانه وتعالى بالغة مؤكدة باليمين إن لكم لما تحكمون؛ فالأمر ليس كذلك.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أي: تقضون من أمانيكم ومزاعمكم، قال الزمخشري يقال: لفلان علي يمين بكذا، إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به، يعني: أم ضمنا لكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد ((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)).
فمعنى ((أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا)) أم أقسمنا لكم، يعني: هل نحن قد أقسمنا لكم الأيمان المغلظة المؤكدة غاية التأكيد والمتناهية في التوكيد؟!