[الأضرحة والقبور المزورة]
قال ابن قتيبة في المعارف: أربعة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وهم من بعضهم البعض: أبو قحافة وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه محمد بن عبد الرحمن، أي: الجد أبو قحافة والابن أبو بكر والحفيد عبد الرحمن بن أبي بكر وابن ابن الابن وهو محمد بن عبد الرحمن.
وقال ابن قتيبة أيضاً: كان عبد الرحمن من أفضل قريش، ويكنى أبا محمد، وله عقب بالمدينة، وليسوا بالكثير، مات فجأة سنة ثلاث وخمسين في جبل يقرب من مكة، فأدخلته عائشة رضي الله تعالى عنها الحرم فدفنته وأعتقت عنه.
وفيه مسقى في مقبرة باب السراديب المسماة بالدحداح، ما دام يقال: إنه عبد الرحمن بن أبي بكر وقد أثبت أنه دفن في مكة رضي الله عنه، وأن أم المؤمنين هي التي دفنته، ثم يعقب قائلاً رحمه الله تعالى: وفي دمشق في مقبرة باب سراديب المسماة بالدحداح مزار يقال: إنه قبر عبد الرحمن بن أبي بكر نسب إليه زوراً، وانتبهوا الآن إلى العبارة الجميلة من القاسمي حيث يقول: وما أكثر المزورات في المزارات، كما يعلمه من دقق في الوفيات.
ويوجد بحث رائع جداً يليق أن يجمع كبحث مستقل يسمى: المزارات المزورات، وقد بلغت الفتنة عند المسلمين بموضوع القبور والمزارات والمشاهد إلى أن أصبحت أغلبها مزورة.
وما أكثر المزارات الباطلة والمزعومة أنها للأولياء والصالحين، ولعلنا نذكر من ذلك أمثلة منها: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ضريح الحسين في القاهرة كذب مختلق بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم، فإنه معلوم باتفاق الناس أن هذا المشهد في القاهرة بني عام بضع وأربعين وخمسمائة، وأنه نقل من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمائة، فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني على رأس الحسين رضي الله عنه قول بلا حجة أصلاً، وقد ورد عن المتائهي ابن دقيق العيد وابن خلف الدمياطي وابن القسطلاني والقرطبي صاحب التفسير وعبد العزيز الديجني: إنكارهم أمر هذا المشهد؛ بل ذكر عن ابن القسطلاني أن هذا المشهد -مشهد الحسين - مبني على قبر نصراني! وهذا شيء لا يستغرب، فإنه يوجد في العهد القريب في دمنهور مولد أبي حصيرة وهو يهودي، بدليل أن اليهود جعلوه مسمار جحا، ويأتون كل سنة في مولده، وتقام حفلات كبيرة عنده، حتى إن الدولة أقامت لهم (كوبري) يوصل إلى أبي حصيرة مباشرة، فيأتي اليهود والمسلمون يحتفلون معاً بمولد أبي حصيرة اليهودي، وعليه يبعد أن يكون ما ذكره ابن القسطلاني: صحيحاً، وهو أن المشهد الحسيني مبني على قبر نصراني.
يقول شيخ الإسلام: وإضافة إلى مشهدي عسقلان والقاهرة هناك ضريح آخر في سفح جبل الجوشن غربي حلب ينسب إلى رأس الحسين أيضاً، وهو من أضرحة الرؤيا -أي: بني بسبب رؤيا- وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال: إن بها رأس الحسين في دمشق والحنانة بين النجف والكوفة، وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله تعالى عنهما، وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه رضي الله عنهم، وفي كربلاء حيث قيل: إنه أعيد إلى جسده.
ورغم أن المحققين يقولون: إن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما ماتت بالمدينة ودفنت في البقيع، إلا أن القبر المنسوب إليها والذي أقامه الشيعة في دمشق هو القبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير إليه، ولا يقل عنه جماهيرية ذلك الضريح المنسوب إليها في القاهرة، والذي لم يكن له وجود ولا ذكر في عصور التاريخ الإسلامي إلى ما قبل محمد علي باشا بسنوات معدودة، ويقول علي مبارك في الخطبة التوفيقية: لم أر في كتب التاريخ أن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات.
وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم، ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة.
هناك بعض المواضع سوف نتجاوزها فكلها تعكس فتنة كثير من المسلمين بهذه القبور، وكيف أن بعض القرى قد يعير أهلها لعدم وجود شيخ يحرسها، ومن يسافر على الطريق الزراعي يلاحظ المقابر ويرى وجود حفرة كبيرة يعتقدون أن هذا يحرس البلد، وكذلك يكون هناك قبر متميز.
يقول: بل وصل الأمر إلى حد أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً من نسل النبي عليه السلام مر عليهم وهو مسافر، ولحبهم له أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها!! ومن الحب ما قتل! أيضاً يقول: في (تنارك) في الهند قبر أبي البشر آدم عليه السلام وتنارك هذه بلدة فيها جماعة سلفية قوية جداً في الهند، ومع ذلك يوجد فيها أيضاً قبوريون، وهناك قبر زوجه وقبر أمه، يقولون: هذا قبر آدم، وهذا قبر حواء، وهذا قبر أم آدم، ويقال: إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة! ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى: أن شريف مكة الشريف عون عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز اعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، فقد كانوا يعتقدون أنه في جدة، وإنما يقال لها: جدة من جدة البشر، أي: جدتنا حواء، فلأجل ذلك -والله أعلم- يسمونها جدة، فاعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء؛ بحجة أن حواء أم لجميع الناس، وليست أماً للمسلمين فقط.
وعلى كل حال: هذه إشارة عابرة من هذا الملف القيم إلا إنه بقي أيضاً بعض الإشارات تتعلق بما ذكرنا نحن به أهل الإسكندرية فهي مناسبة بمناسبة الكلام على المزارات المزورات.
يقول الأستاذ سعد صالح محمد في كتابه: صراع بين الحق والباطل) المطبوع سنة ١٣٦٨ هجرية: نشرت جريدة الجمهورية سنة ١٣٥٩هـ أن أحد قطاع الطرق أراد أن يبحث عن عمل آخر غير احتراف السلب وترويح الناس، ففكر في مزاولة جريمة سلب أموال الناس في مجال آخر؛ ليكون في مأمن من يد القانون، وتشاور الرجل مع أفراد عصابته، وأخيراً استقر رأيهم على أن يدعي قاطع الطريق أنه ولي من أولياء الله الصالحين، فيطلق لحيته، ويلبس زي الدراويش، كما اتفقوا أيضاً على أن يقوم أفراد العصابة بأدوار المريدين، وأن يسيروا في ركاب ولي الله ليروجوا بين الناس معجزاته، ولكي يؤمن الأهالي بالشيخ ويشهدوا له ولو بمعجزة واحدة -هم يقصدون كرامة لا معجزة؛ لأن المعجزة خاصة بالأنبياء- اقترح قاطع الطريق أن يسرق رجاله محراثاً كان يمتلكه شيخ القرية، وأن يقوموا بتخبئته في مكان معلوم من الترعة، وسوف يقوم المريدون بالدعاية للولي في القرية، ويدعون أنه يعرف الغيب، وعندئذ سوف يأتيه شيخ القرية ليرشده إلى المحراث المسروق، وسوف تتم هنا المعجزة المشهودة، حيث يحقق ولي الله أمل صاحب المحراث، وبعدها سيصبح قاطع الطرق في معتقدات الأهالي من أولياء الله، ثم تتدفق عليهم جميعاً العطايا، وقام رجال العصابة بتنفيذ الفكرة وحدث ما توقعوه، وكبر الأهالي وهللوا؛ فقد أصبح الشيخ محقق المعجزات، وكان جوهرها قائماً على سرقة المحراث وتخبئته!! كشفت الأيام الغطاء عن ولية خيالية، وضعها سادة القبور ليحجبوا عن أعين الناس الحقيقة التي كانت مختفية تحت ذلك الضريح الوهمي، قرر المسئولون عام تسعة وخمسين وثلاثمائة وألف هدم مبنى محافظة القاهرة بناحية باب الخلق لبنائه من جديد، وكان المبنى القديم يضم في أحد أركانه ضريحاً أطلق عليه اسم: الشيخة سعادة، وادعى السدنة أنها ابنة الحسين رضي الله تعالى عنه، وبعد أن تم هدم المحافظة نفسها جاءت الفئوس لتأتي على بقية المبنى، وهو الركن الذي يضم الضريح، وانتشر خبر هدم الضريح في حي قبر سعادة والأحياء المجاورة لها، وسرعان ما تجمع الأهالي والمضللون وأحاطوا بالضريح على عادتهم في مثل هذه الحوادث، وراح المبطلون وغيرهم يتناقلون عن بعضهم بجهل وتقليد ما توارثوه من كلام سخيف غير معقول حول الضريح، فمن قائل: إن العامل الذي بدأ في الهدم شلت يداه ونحو ذلك، فبدءوا يحكون الكرامات حتى يحتالوا على الناس، وكلها في الكرامات المؤذية، فالذي بدأ في الهدم شلت يداه، وكسرت يد فأسه، وغير ذلك من الأراجيف والمفتريات.
أما سادنة هذا الضريح فلم تنس هي الأخرى أن تطلق عدة شائعات، وكيف تنسى وقد هزتها الصدمة وزلزلت كيانها بسبب هدم الضريح، فقد كان مورد رزقها الوحيد، ومما كانت تحكيه السادنة عن كرامات الشيخة المزعومة: أن مهندساً حاول هدم الضريح وفوجئ في اليوم الثاني بقرار نقله إلى الصعيد، وبينما الناس مشغولون بقصة الضريح كانت الفئوس تنزل بالحفر إلى مسافات كبيرة، ولم يجدوا في الضريح شيئاً سوى بقايا ساقية وبعض المواسير والأسلاك الكهربائية والأحجار، وفضحت هذه الخدعة.
أيضاً قال الشيخ سيد سابق حفظه الله تعالى حين كان مدير الثقافة بالأوقاف وقتها: إن هناك شيخاً اسمه الأربعين، له عدة أضرحة في أماكن متفرقة بمصر، وإنه لا يوجد شيخ بهذا الاسم، يقول: فليت سكان الصعيد الأفاضل يقتنعون بهذه الحقيقة وينصرفون عن هذا الولي الوهمي وغيرهم من الأولياء الذين أحبوهم وقدسوهم.
يأتي دورنا هنا أهل الإسكندرانية، يقول: ولـ أبي الدرداء ضريح وهمي، وله أيضاً قصة تحمل في طياتها كرامة خيالية كان وما زال لها شأن كبي