[علم النجوم والاكتشافات والتجارب بين المشروع والممنوع]
وقال بعضهم: إن في هذه الآيات تكذيب المنجمة.
وكلمة المنجمة كان لها اصطلاح غريب مخالف قليلاً لما نعرفه الآن، فالمنجم الآن ليس هو الذي يدعي النظر في النجوم ويستطلع فيما يزعم أخبار الغيب عن طريق النظر في النجوم كالكهان مثلاً، وإنما المنجم يدخل فيه كل من يشتغل بعلم الهيئة والنجوم.
فعلم الفلك الذي هو علم الهيئة هذا علم يخضع للتجربة والمشاهدة والاستنتاج والدراسة والاستقراء، وممكن أن يصدق أن الكسوف يحصل في وقت معين، وليس هذا ادعاءً للغيب، وإنما هو بناء على حسابات وضبط للنظام الذي وضعه الله في هذا الكون، فأنت عندما تقول: إن الشمس غداً ستشرق من المشرق لا تخبر بالغيب، لأن ذلك شيء تعودناه ورأيناه، فنعرف أنها سوف تشرق من المشرق بإذن الله، فكذلك الإخبار عن بعض هذه الأشياء.
إذاً: لا ينبغي أن نخلط بين العلوم التجريبية التي تخضع للحس وللتجارب البشرية والاستقراء، وبين من يدعي الإخبار بأشياء ستقع، بناءً على أنه يعلم الغيب، فهذه نقطة وتلك نقطة أخرى.
فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بالبحث والتحري لا يكون من الغيب في شيء، فلذلك بعض الناس يختلط عليهم الأمر، يقول لك: توجد الآن أجهزة يمكن من خلالها معرفة نوع الجنين، فتراه يرتبك ويذكر قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:٣٤] ثم يقول: عندنا تجرى أنواع من الفحوص ثم يقول لك الطبيب: إن هذا ذكر أو أنثى مثلاً، فهل هذا يتنافى مع إيماننا بأنه لا يعلم ما في الأرحام إلا الله؟ نقول: إن الله عز وجل يعلم ما في الأرحام بدون آلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يوجد غيب في حقه سبحانه، لكن الإنسان عندما يعلم ما في الرحم مثلاً هو لا يقول: هذا ذكر أو أنثى دون أن يجري فحوصات طبية ويستعمل آلات، كذلك عندما يكون في العظم شرخ مثلاً، فإنه لا يقول لك: هذا فيه شرخ دون أن يجرى أشعة وينظر في الأشعة.
فهل هو يعلم الغيب؟ لا، ولكن وصل إليه بنفسه بجهد وبآلة.
فالمقصود أن الله هو الذي يستأثر بعلم الغيب؛ لأنه لا يحتاج إلى آلة، أما نحن فلا يمكن أن نعرف إلا بآلة أو بجهد بشري نفعله، ونصل في النهاية إلى هذه الأشياء.
على أي حال يقول: وقال بعضهم: في هذه الآيات تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة، فإنهم يعرفون طبائع النبات، وذا لا يعرف بالتأمل، فعلم بأنهم وقفوا على علمهم من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق، وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة، زعماً بأن معرفة مواقيت الكسوف وخواص المفردات مما يشمله علم الغيب، ولا يصح أن أحداً يدعي أنه يعرفه، ونكذب من يقول هذا بحجة قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:٢٦].
والصواب أن هذا ليس له علاقة بعلم الغيب؛ لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية وعلم الأجنة، فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء، ولذا قال بعض الحكماء: لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال عن الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد كل شيء بالتكليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافياً لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم.
لقد ترك الله سبحانه وتعالى البشر يترقون في العلوم الدنيوية عن طريق الأجهزة والبحوث والاستقراء، ويكتشفونها بأنفسهم، لكن العلم الذي لا يمكن للبشر أن يصلوا إليه هو علم الوحي والغيب، فهذا أوحاه الله إلى الأنبياء، لكن لو أن الأنبياء هم الذين يعلمون الناس الكيمياء والفيزياء والزراعة والفلاحة وغير هذه الأشياء بتفصيل؛ فإن ذلك سيسد على الناس باب البحث والتعلم والسير في الأرض، واستخراج كنوزها وعلومها.
أما بالنسبة للعلوم الأخروية فقد اقتضت حكمة الله بأن هذا العلم النفيس لا يمكن أن تصل إليه العقول إلا عن طريق الوحي؛ لأنه لا يمكن للعقل البشري أن يصل إلى معرفة الجنة وصفات الجنة، ولا ما سيحصل في المستقبل، ولا ما حصل قبل خمسين ألف سنة من خلق السماوات والأرض، ولا أخبار الأمم الغابرة، ولا صفات الله، ولا أشراط الساعة، ولا تفاصيل يوم القيامة إلى آخره، وكذلك معرفة ما يرضي الله، ولا كيف سنصلي صلاة هي التي يريدها الله، أو نزكي زكاة ترضي الله.
إذاً: الوحي يقتصر على هذا الجانب، أما الجانب الدنيوي فقال فيه عليه الصلاة والسلام: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) يعني: أمور الدنيا تترك للاجتهاد البشري.
نعم إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما فيه منافعهم وتنمية معارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) ولكن مع ربطها بما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة، وقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
يقول القاسمي: فاحفظه فإنه من المضنون به على غير أهله.
يعني: علم خصائص النباتات أو المعادن والكلام في علم الهيئة، ونحوها ليست من الغيب، بل هذه العلوم دون العلوم الشرعية، وتركت للناس بحيث يترقون فيها وينهضون بالطريقة المعروفة.