للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بعض صور معاملة الإسلام الحسنة للمشركين وأهل الذمة]

وقد ذكر الشيخ عطية سالم بعض صور المعاملة الحسنة لأهل الذمة، فقال: وقصة الظعينة صاحبة المزادتين في صحيح البخاري، فلم يقتلوها، أو يأسروها، أو يستبيحوا ماءها، بل استاقوها بمائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ من مزادتيها قليلاً، ودعا فيه، وردَّه، ثم استقوا فقال لها: (اعلمي أن الله هو الذي سقانا، ولم ننقص من مزادتك شيئاً) وأكرموها وأحسنوا إليها، وجمعوا لها طعاماً، وأرسلوها في سبيلها، فكانت تذكر ذلك، وتدعو قومها للإسلام، وقد كانت مشركة.

وقصة ثمامة لما جيئ به أسيراً ورُبط في سارية المسجد، وبعد أن أصبح عاجزاً عن القتال لم يمنعهم ذلك من الإحسان إليه، فكان يراح عليه كل يوم بحليب سبع نياق، حتى فُكّ أسره، فأسلم طواعيه.

وهكذا قول الله تبارك وتعالى أيضاً: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:٨] * {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:٩] فلا يتصور أن يكون هناك أسير بين يدي المسلمين وهو مسلم، فإن الأسير لا يكون إلا كافراً، فالمقصود بهذه الآية الأسير الكافر قطعاً.

وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:٨] يعني: يؤثرون على أنفسهم {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:٨]، فهذه الآية تدل على جواز الإحسان بالإطعام ونحو ذلك كما ذكرنا.

وفي سنة تسع -وهي سنة الوفود- كان يقدم إلى المدينة المسلمون وغير المسلمين فيتلقون بالبر والإحسان، كوفد نجران وغيرهم، وهاهو ذا وفد تميم جاء يفاخر ويفاوض في أسارى له، فيأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ويستمع مفاخرتهم، ويأمر من يرد عليهم من المسلمين، وفي النهاية يسلمون، ويجيزهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالجوائز، فهذا الوفد أتى متحدياً مفاخراً بالشعر، ومع ذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أحد الصحابة أن يرد عليهم بنفس طريقتهم؛ وذلك بالشعر، وجاءوا بأمر جارٍ في عرف العرب، فجاراهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلن لهم أنه بُعث ما بالمفاخرة، ولكن ترفق بهم إحساناً إليهم، وتأليفاً لقلوبهم، وقد كان، فأسلموا.

يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:٨] من كانوا كذلك من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم، وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، فعم بقوله: ((الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمنين لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم، ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)).

قال الشافعي رحمه الله تعالى: وكانت الصلة بالمال والبر والإقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين؛ وذلك لأنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين، والإقساط إليهم إلى آخر كلامه.

ثم يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: فهذا هو الذي يقتضيه روح التشريع الإسلامي، ويقول معبراً عن وجهة نظره: إن المسلمين اليوم مختلطة مصالحهم بعضهم ببعض، ومرتبطة بمجموع دول العالم من المشركين وأهل الكتاب، ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش منعزلة عن المجموعة الدولية في تداخل المصالح وتشابكها، ولاسيما في المجال الاقتصادي عصب في الحياة اليوم: من إنتاج، أو تصنيع، أو تسويق، فعلى هذا تكون الآية مساعدة على جواز التعامل مع أولئك المسالمين، ومبادلتهم مصلحة بمصلحة على أساس ما قاله ابن جرير، وبينه الشافعي، وبينه الشيخ أيضاً -يعني: الشيخ الشنقيطي رحمه الله- في حقيقة موقف المسلمين اليوم من الحضارة الغربية، وبشرط سلامة الباطن، بمعنى: أن القلب لا يميل إليهم بمحبة ومودة، وإنما هذه في المعاملة الظاهرة فقط، ومع عدم وجود تلك المصلحة عند المسلمين أنفسهم، فالمسلمون أولى بالتكافل فيما بينهم.

يقول: ومما يؤكد ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:١]، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:٥١]، ومع ذلك لا توجد موالاة قلبية في كل الأحوال، ولكن لما أخرجهم النبي عليه السلام من المدينة، وحاصرهم بعد ذلك في خيبر، ففتح الله عليه خيبر، وأصبحوا في قبضة يده، فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين، ولا المظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم، فحينئذ عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسط، فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها، وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأُجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين، فلم يتخذهم عبيداً يسخرهم فيها، وبقيت معاملتهم بالقسط مع أنهم يحرم موالاتهم.

والآية نصت في النهي: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:٥١] لكن في المعاملة ماداموا غير محاربين، ولا يخرجون المسلمين من ديارهم، ولا يظاهرون عليهم فلا حرج، كما جاء في قصة ابن رواحة رضي الله عنه لما ذهب يخرص عليهم النخيل بخيبر: وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة؛ ليخفف عنهم، فقال لهم كلمته المشهورة: والله لأنتم أبغض الخلق إلي، وقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي عليه الصلاة والسلام، ولن يحملني بغضي لكم ولا حبي له أن أحيف عليكم -أي: أظلمكم- فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت، وإما تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت، فقالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض! أي: بالعدل والقسط، وقد بقوا على ذلك نهاية زمنه عليه الصلاة والسلام، وخلافة الصديق، وصدراً من خلافة عمر حتى أجلاهم رضي الله تعالى عنه عنها، وكذلك المؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي عليه السلام بعد الفتح، وأعطاهم الصديق، ثم منعهم عمر رضي الله تعالى عنه.

إن أشد ما يظهر وضوحاً في هذا المقام هو قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥] فهذه حسن معاملة وبر وإحسان لمن جاهد المسلم على أن يشرك بالله ولم يقاتل المسلمين، فكان حق الأبوة مقدماً ولو مع الكفر والمجاهدة على الشرك.

وكذلك جاء في نهاية هذه السورة: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) فتأمل قول الله تعالى بعد ذلك: ((وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا)) أي: آتوا المشركين ما أنفقوا، بيان ذلك: أن المؤمنات المهاجرات كن متزوجات بأزواج مشركين، وهؤلاء المشركون عندما تزوجوا بهن دفعوا لهن مهراً، فأسلم النسوة وهاجرن، فالله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين أن ادفعوا للمشركين الذين هم أزواج المؤمنات المهاجرات ما أنفقوا على أزواجهم، لأنها بعد أن أسلمت وهاجرت، انحلت العصمة بينها وبين زوجها الكافر، وفاتت عليه ولم يقدر عليها، فيأمر الله المسلمين أن يؤتوا أزواجهن -وهم مشركون- ما أنفقوا من صداق عند الزواج، لعجزهم عن استرجاع الزوجات، وعدم جواز إرجاعهن إليهم.

فجاء الأمر بالمعاملة بالقسط، مع أن هؤلاء الكفار لم يقهروا المسلمين على ذلك.

فهذه كلها نماذج تؤكد هذا المعنى الذي نذكره وهو أن التسامح والتعصب دائرته هي المعاملة فقط، وأما العقيدة فلا لا نسمي الكلام فيها تسامحاً؛ لأنه خروج من الملة، ومصادمة لأحكام القرآن.