[تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت)]
قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٨٠].
قوله تعالى: (كتب عليكم) يعني: فرض عليكم.
(إذا حضر أحدكم الموت) المقصود: إذا حضر أحدكم الموت يعني: أسباب الموت وأمارات الموت ومقدماته، وليس الموت الحقيقي؛ لأنه إذا حضر أحدنا الموت الذي تنزع فيه الروح لن يجد وقتاً للوصية، لكن المقصود هنا: أسباب الموت ومقدماته.
(إن ترك خيراً الوصية) إن ترك خيراً أي: مالاً، وهذه أحد المواضع التي سمى فيها القرآن الكريم المال خيراً، ونظيرها قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:٨]، (حب الخير) المقصود به المال، كذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:٢٧٢]، المقصود به المال، وكذلك قول موسى عليه السلام كما حكاه الله تبارك وتعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:٢٤] فالمقصود بالخير المال.
وقوله: ((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)) إشارة إلى إن المال الذي تحصل الوصية به ما كان مجموعاً من وجه حلال محمود، فهذا هو الذي يسمى خيراً، فإن المال لا يقال له خير إلا إذا كان كثيراً ومن مكان طيب، فالمال الذي يكون خيراً ويوصف بكلمة خير لابد أن يكون كثيراً ووفيراً وليس مالاً قليلاً، ومن مكان طيب، أي: من مصدر حلال، فهذا هو الذي يوصف بالخير، لكن مال قليل من مصدر حلال أو مال كثير من مصدر غير طيب لا يسمى خيراً.
فقوله تعالى هنا: ((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)) فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا أتته علامات الموت أو أمارات الموت وليس عنده مال كثير، وورثته فقراء، فهذا لا يدخل في الأمر بالوصية هنا، إنما الوصية لمن ترك مالاً وفيراً.
((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)) (خيراً) يعني: مالاً، (الوصية) وهو مرفوع بِكُتِب، وتقدير الكلام: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت، يعني: وقت حضور الموت، (إن ترك خيراً الوصية) يعني: فليوص.
((لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)) يعني: بالعدل، ولا يكون عدلاً إلا إذا لم يزد عن الثلث، ولم يفضل الغني.
وهذا الجزء من سورة البقرة حافل بالأحكام الشرعية الكثيرة جداً، فنحن نكتفي بهذه الإشارات العابرة ونرجو أن تفصل في أوقات أخرى.
الوصية تكون -كما ذكرنا- لمن ترك مالاً كثيراً وورثته أغنياء، فيوصي بالثلث ولا يزيد على الثلث، واستحب بعض العلماء أن يقلل عن الثلث كما نصح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وأيضاً لا يفضل الغني في إعطاء الوصية.
(حقاً على المتقين) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله.
(على المتقين) يعني: على المتقين الله، الذين يتقون الله.
وقوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ)) يعني: فرض، وهذا الحكم منسوخ، وهذا الموضع أوضح نموذج يدل على جواز نسخ القرآن بالسنة، فإن هذه الآية منسوخة بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) والوارث هو الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فريضته في القرآن الكريم كما في سورة النساء، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى كل ذي حق حقه، فما دام الشخص يرث فليس له نصيب في الوصية، وهذا البلاء الآن منتشر للأسف بسبب جهل الناس، تجد الرجل يوصي لأولاده الذكور دون الإناث، ولا ينبغي أن يوصي للورثة ولو للذكور والإناث، والعطاء في حال الحياة هبة، أما أن يقول: إذا مت فأعطوا فلاناً كذا من أولاده فهذه وصية، والوصية لا تجوز للوارث؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أعطى هذا الوارث حقه بآيات الفرائض المعروفة في سورة النساء.
إذاً: الوصية تكون لغير الوارثين، فيعطي -مثلاً- الأقارب الذين لا يرثون مثل أولاد ابنه المتوفى أو غيرهم من أقربائه، ويجوز أن يوصي إلى جهة من جهات الخير مثل ملاجئ أيتام مستشفيات وغير ذلك من الأعمال الخيرية.
ووجوب الوصية منسوخ بآيات الميراث، وبحديث: (لا وصية لوارث) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.