[تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة)]
قال الله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:٢٠ - ٢٣].
قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) قرأ الجمهور: (فإذا أنزلت) وذكر على بناء الفعلين للمفعول، وقرأ زيد بن علي وابن عمير: (فإذا نزلت)، وذكر على بناء الفعلين للفاعل، ونصب القتال.
وهذه السورة محكمة، يعني: هذه الآية آية محكمة، فليس فيها نسخ، قال ابن جرير: وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) معنى قوله: (سورة محكمة) يعني: محدثة النزول، وهذه القراءات تفسر المعنى، وليس المقصود بكونها محدثة أنها مخلوقة، وإنما المراد أنها محدثة من حيث النزول، فالقرآن محدث بالنسبة لنزوله، وأما من حيث هو فهو كلام الله.
(طاعة وقول معروف) قال القرطبي: قراءة أبي: (يقولون طاعة).
(فهل عسيتم) قال الطبري: أجمعت القراء غير نافع على فتح السين من قوله: (فهل عسيتم)، وكان نافع يكسرها ويقول: (فهل عسِيتم)، قال ابن جرير: والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين بإجماع الحجة من القراء عليها، وأنه لم يسمع في الكلام -أي: كلام العرب- عسي أخوك يقوم، بكسر السين وفتح الياء، ولو كان صواباً كسرها إذا اتصل بها مكني جاءت بالكسر مع غير المكني، وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم الظاهر الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكني، وإن التي تلي (عسيتم) مكسورة، وهي حرف جزاء، و (أن) التي مع (تفسدوا) في موضع نصب بعسيتم.
(فهل عسيتم إن توليتم)، قرأ الجمهور (إن توليتم) مبنياً للفاعل، وقرأ علي بن أبي طالب: بضم التاء وكسر اللام مبني للمفعول (فهل عسيتم إن توليتم)، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب.
وقال القرطبي: قراءة علي بن أبي طالب (إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) بضم التاء والواو وكسر اللام، وهي قراءة ابن أبي إسحاق، فرواها رويس عن يعقوب: (فهل عسيتم إن تُولِّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)، قال القرطبي: قراءة يعقوب وسلام وعيسى وأبي حاتم: (وتقطعوا أرحامكم)، بفتح التاء وتشديد القاف، من القطع اعتباراً بقوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:٢٧].
وروى هذه القراءة هارون عن أبي عمرو وقرأ الحسن: (وتقطعوا أرحامكم) مفتوحة الحروف مشددة؛ اعتباراً بقوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:٩٣]، وأما الباقون فقد قرءوها: (وتُقَطِّعوا) بضم التاء المشددة والطاء، من التقطيع على التفسير، وهو اختيار أبي عبيد.
قوله: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) أي: نظراً مثل نظر المغشي عليه، (فأولى لهم) هذا مبتدأ وخبر، وقيل: خبر ((أولى)): (طاعة)، (فأولى لهم طاعة)، وقيل: طاعة صفة لسورة، أي: ذات طاعة.
قال في فتح البيان: وفيه بُعد لكثرة الفواصل، وقيل: طاعة مبتدأ، والتقدير: طاعة وقول معروف أمثل من غيره، وقيل: التقدير: أمرنا طاعة.
قوله: (إن توليتم) جملة معترضة بين (عسيتم) و (أن تفسدوا)، خبر عسى، و (أولئك) إشارة إلى المفسدين، قال في (فتح البيان) من هنا إلى آخر السورة لا يظهر إلا كونه مدنياً صحيح؛ لأن القتال لم يشرع إلا في المدينة، وكذلك النفاق لم يظهر إلا في المدينة.
فيحمل القول فيما تقدم بأنها مكية على أغلبها أو أكثرها، ويحمل القول بأنها مدنية على البعض منها.
يقول الله تعالى مخبراً عن المؤمنين الذين صدقوا الله ورسوله في تمنيهم شرعية الجهاد، قالوا: ((لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ))، فهذا شأن المؤمنين، أنهم يتشوقون إلى تشريع الجهاد؛ ليحصلوا ما يترتب عليه من الفوائد، وأعظم ذلك الشهادة في سبيل الله.
((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ))، أي: أنهم متشوقون إلى نزول سورة تشرع لهم الجهاد والقتال.
((لَوْلا)) أي: هلّا نزلت سورة؛ اشتياقاً للوحي، وحرصاً على الجهاد وثوابه.
فلما فرضه الله عز وجل وأمر به نكل عنه كثير من الناس، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:٧٧].
وهاهنا يقول عز وجل: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)) أي: مشتملة على حكم القتال؛ ولهذا قال هنا: ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ))، أي: في معنى الجهاد، (مُحْكَمَةٌ)، أي: غير منسوخة.
((وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ))، قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين؛ لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة.
وهذا الموضوع بالذات يحتاج إلى بعض الإيضاح، وقد سبق أن أخذناه بالتفصيل في محاضرة، وجعلناها موضوعية إلى التيارات الجهادية، فلا نطيل الآن في ذكره.
((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ))، أي: ذكر فيها الأمر بقتال المشركين.
((رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: شك، وهم المنافقون، أو ضعْف في الدين، وأصل المرض: الفتور، فمرض القلوب: فتورها عن قبول الحق، والأول أظهر؛ لموافقته سياق النص الكريم، أي: أنهم المنافقون.
قوله: ((يَنظُرُونَ إِلَيْكَ)) -أي: يا محمد! عليه الصلاة والسلام- شزراً وكراهية منهم، وينظرون نظر مغموصين ومغتاظين بتحديث وتحديد، يحدثون بأعينهم، ويحدون النظر من الشزر والكراهية، والغيظ الذي يملأ قلوبهم.
وقوله: ((يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)) أي: من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء خوفاً من أن تؤذيهم فتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، وهم في السر يميلون إلى الكفار، فأنت ستأمرهم إذا نزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال، فهم يخافون أن تأمرهم بالخروج لجهاد الكفار الذين يحبونهم، ويوالونهم في السر، ويظهرون أنهم معك، فيظهر ذلك في عيونهم وفي نظراتهم.
((مِنَ الْمَوْتِ))، أي: من خوف الموت.
وقال ابن زيد: هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم فلا يفقهون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وشبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يصرف بصره.
((فَأَوْلَى لَهُمْ))، اتفق المفسرون على أن المراد بقوله تعالى هنا: ((فَأَوْلَى لَهُمْ)) التهديد والوعيد، لكن اختلفوا بعد ذلك في المراد به هنا هل هو تهديد، أو تهديد ووعيد؟ فذهب الأصمعي إلى أنه فعل ماضي، أي: أنه بمعنى قارب، وقيل: قرب، فمعنى: ((فَأَوْلَى لَهُمْ)) أي: قارب هلاكهم.
والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي، بمعنى: القرب، ((فَأَوْلَى لَهُمْ))، أي: قرب أجلهم.
وقال أبو علي: (أَوْلَى لَهُمْ) اسم تفضيل من الويل، أصلها: (أويل لهم)، فحمل وزنه أفلع، وورد بأن الويل غير متصرف، وأن القلب خلاف الأصل، وفيه نظر.
وقيل: إنه أولى: فعل من: آل، يأول.
وقال الرضي: إنه علم للوعيد، وهو مبتدأ، و (لَهُمْ) خبره، وقد سمع فيه قولان: بتاء التأنيث.
وقال القرطبي: قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهديد ووعيد.
أي: اعتاد العرب أن يستعملوا هذه الصيغة: (أولى لك) للتهديد والوعيد، كما قال الشاعر: فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مردّ وهذا كما في الآية في سورة القيامة: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:٣٤ - ٣٥].
وقال الأصمعي: معناه: قاربه ما يدركه، أي: نزل به.
فأولى ثم أولى ثم أولى، أي: اقترب، أو قاربه ما يدركه، وهو نازل به لا محالة، ولن يُردّ هذا الوعيد المهلِك عنه.
فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد أي: هل يمكن للبن بعد حلبه من الضرع أن يرجع مرة ثانية؟! فكذلك الوعيد سوف يأتيك قطعاً ولن يرد عنك، ولن يزول.
وقال الأصمعي: (فَأَوْلَى) معناه: قاربه ما يهلكه، أي: نزل به، وأنشد: فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث أي: وقارب أن يزيد على الثلاث.
وقال ثعلب: ولم يقل أحد في (أولى) أحسن مما قاله الأصمعي.
إذاً: فأفضل ما قيل في تفسير (أولى) أنه بمعنى قاربه ما يهلكه.
وقال المبرد: يقال لمن