تفسير قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:٣].
((وإذ أسر النبي)) محمد صلى الله عليه وسلم.
((إلى بعض أزواجه)) هي حفصة في قول ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والشعبي والضحاك وهو تحريم فتاته في قول هؤلاء.
قال ابن جرير: أو ما حرم على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحله له.
وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد.
((فلما نبأت به)) يعني: لما أخبرت بهذا السر صاحبتها كما تقدم.
((وأظهره الله عليه)) أي: أطلعه الله عن طريق الوحي: أن حفصة أخبرت عائشة بالسر الذي ائتمنتها عليه.
((عرف بعضه وأعرض عن بعض)) أي: عرفها بعض ما أفشته معاتباً لها، وأعرض عن بعض الحديث تكرماً، وهذا من معالي ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نوع من التغافل الذي ما يزال من فعل الكرام؛ لأنه لا يتغافل إلا كريم، أما الذي يستقصي دائماً فهو اللئيم.
إذاً: الكريم إذا عاتب فإنه لا يستقصي، وإنما يتجاوز ويتغافل ويتجاهل، فهذا مما يمدح به الإنسان، فلذلك قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض)).
((فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ)) أي: الذي هو البعض.
{قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي: الذي لا تخفى عليه خافية.
وفي الإكليل: يقول في الآية: إنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وإنه ما دام الشخص يثق بك ويسر إليك بحديث فإنه يجب عليك أن تكتم هذا السر.
وكما أشرنا من قبل إلى أن استكتام السر أو استيداع السر إما يأتي بصورة واضحة وإما أن يأتي بقرينة، كما جاء في الحديث عن السر الذي أتى بقرينة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا حدث الرجل صاحبه ثم التفت فهي أمانة) يعني: عندما يتكلم صاحب السر تجده في أثناء الكلام يلتفت يميناً وشمالاً هل يوجد أحد يسمعه أم لا؟ فكأنه يقول له: هذه أمانة فلا تفشها، وهذا سر فلا تفشه، فينبغي أن يكتم السر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المجالس بالأمانة)، والأصل في المسلم إذا جلس في المجلس أنه يؤتمن على ما فيه ولا يفشوه هذا هو الأصل، فما بالك إذا صرح لك المتكلم وقال لك: هذا سر فاكتمه ولا تفشه لأحد؟ لكن على الإنسان ألا يأتمن على سره إلا من يثق به أنه يحفظ السر، كذلك من اؤتمن على سر، فلا يأتي إلى ثقة له فيحكي له هذا السر، وبالتالي لا يبقى سر فتحصل فتن كثيرة، ولذلك قال بعض الشعراء: إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق وفي هذه الآية حسن المعاشرة مع الزوجات؛ لأن هذا الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام مباح أحله الله سبحانه وتعالى له، ومع ذلك تلطف في استرضائهن والتخفيف عنهن، حتى وصل به الأمر إلى أنه حلف ألا يقربها أو أنه حرمها! وفيها التلطف في العتب.
الإنسان قد يعاتب لكن لا يسترسل في العتاب ولا يستقصي، خاصة أن بعض الناس إذا كان الأمر له استقصى، أما إذا كان عليه فهو يتضايق من هذا جداً، فينبغي للإنسان إذا عاتب أن يتوسط في العتب وألا يستوفي كل ما له من الحق، فما استوفى كريم قط! وفيه الإعراض عن استقصاء الذنب، وإلا فلن يبقى لك صديق.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط