للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قتل الخراصون)]

قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:١٠]، في هذا إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنهم لم يؤفكوا لاتباعهم الدلائل، بل لأخذهم بالخرص والتخمين، ولا يمكن أن يصرف إنسان عاقل عن الحق إلى الباطل؛ لأن الباطل ليس له أدلة يستند إليها، ولأن كل ما يتعلق بالتوحيد والإيمانيات وهذه الأمور الكلية المهمة الخطيرة قامت عليها أدلة هي أوضح من الشمس، فبالتالي لا يمكن أن ينصرف عنها من يكون عنده برهان ودليل، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما أوجب على كل مكلف البحث عن الدين الحق أوجب عليه أمرين: الأول: أن يجتهد ويبذل غاية وسعه في البحث عن دين الحق.

الثاني: أن يجتهد في الوصول إلى دين الحق، مثل: القضايا الفقهية فإنه يجوز للعالم أن يجتهد كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، أما في قضايا الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتوحيد، وأدلة صدق النبوة وصدق الرسالة وصدق القرآن الكريم فلا؛ لأن الأدلة واضحة تماماً لا يصد عنها إلا من أفك وإلا من سبقت له الشقاوة، لكن في الحقيقة لا يمكن أن يكون لمبطل دليل كما قلنا في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:١١٧]، فقوله: ((إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)) هل لهذا مفهوم؟ بمعنى: أنه لو أتى واحد يعبد غير الله ويزعم أن معه برهاناً على عبادة غير الله، هل هذا يقع؟ لا يمكن أبداً أن مشركاً يكون عنده أدلة أو برهان أو دليل، ولذلك نجد دائماً الباطل في مواجهة الحق لا يمكن أن يسلك المسلك الشريف العلمي النزيه أبداً، فأصحابه يخافون جداً من النقاش الحر، والأدلة العلمية عندهم إنما هي المكر أو المجادلة أو التشنيع على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ووصفهم بأنهم إرهابيون وأصوليون ومتطرفون، إلى آخر هذه الشتائم وهذا التشنيع الذي يراد به الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، لكن هل يقوون على مواجهة الحق للباطل وكل يدلي بدلوه؟ لا يمكن أن يثبت أبداً أي باطل في مواجهة دين الإسلام، فالواجب على كل عاقل أن يجتهد في البحث عن دين الحق، ثم يجتهد حتى يصل إلى الحق، فلا يقبل مثلاً من إنسان على الإطلاق أن يقول: بحثت وتحريت فوجدت البوذية هي دين الحق، ويقول: هذا هو اجتهادي واعذروني في اجتهادي، ويبنى على ذلك أيضاً فكرة المساواة بين الأديان وأخوة الأديان إلى آخر هذا الضلال المبين، أو واحد يقول: أنا اجتهدت في البحث وتحريت ثم توصلت إلى أن النصرانية هي دين الحق، هذا مستحيل أن يقع؛ لأن على الحق أدلة لا يمكن أن تلتبس على ذي بصر ولا ذي عينين، إلا أنه يمكن أن يصرف بقدرة الله عن الحق، بحيث يرى الحق لكن لا يرزق اتباعه، كحال علماء اليهود الذين عرفوا الحق وعرفوا أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكنهم استكبروا واستنكفوا عن اتباعه، وحسدوا العرب أن يخرج منهم النبي الموعود صلى الله عليه وسلم، فليس نكوصهم لأنه ليس هناك أدلة؛ ولكن لما في نفوسهم من جحود واستكبار وعلو في الأرض، ولذلك تجد عامة من ينتكس والعياذ بالله إلى التنصر أو إلى غير ذلك من أنواع الردة، فليس معنى ذلك: أنه لم يرتد عن الإسلام إلا بعد أن ظهر له دليل وبرهان، لكن الله سبحانه وتعالى كتب على هذا الشقاء منذ الأزل؛ أولاً: هذا لا يمكن أن يكون مسلماً حقيقياً إلا أن يشاء الله.

ثانياً: غالباً تكون المغريات بشهوات أو بأموال أو بكذا أو كذا من هذه الأشياء، كما يحصل الآن في الفردوس الثاني الذي يوشك أن نفقده وهو أندونيسيا، فأندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم كله، ولذلك تتكالب عليها قوى الكفر والإلحاد لتفتيتها بواسطة الذين يخرجون الآن عليها ويريدون الاستقلال، وهم المرتدون الذين أفكوا عن الحق بارتدادهم إلى النصرانية لغرض أو لآخر، وقد اشتدت الحملة منذ سنوات طويلة جداً في أندونيسيا من أجل صرف الناس عن الدين وصرفهم عن الإسلام وتنصيرهم، وقد حكيت لكم من قبل قصة تنم عن مدى تغلغل النشاط التنصيري واستغلال ثالوث الفقر والجهل والمرض، وكيف تخرج الحملات التبشيرية للناس في أندونيسيا، حتى إن أحدهم قام بإغراء هؤلاء الفقراء بالأرز والطعام والأموال، ومن شدة الفقر في أندونيسيا استجابوا لهذا المنصر في الظاهر، وأظهروا التنصر، فهذا القسيس تدرج معهم حتى عمدهم أي: غطسهم في التعميد المعروف، وفرح جداً بما وصل إليه من إنجازات فقال لهم: إن الكنيسة تريد أن تكافئكم على أنكم الآن دخلتم في دين المسيح فتنصرتم، فكل واحد منكم يطلب طلباً وسوف نحققه له؛ مكافأة لكم على استجابتكم، فصاح الجميع بصوت واحد: الحج إلى مكة.

إذاً: غاية ما يفعله المنصرون وما يستطيعون القيام به أن يستعبدوا الناس بهذه المساعدات المسماة بالإنسانية، كالتمريض، وفتح المدارس الخاصة التي يضعون فيها الراهبات وهكذا، فهم يتخذون وسائل ملتوية، أما أن يقف الباطل في مواجهة الحق ويأتي بأدلة فلا، إنما يعرف الباطل الظلم والخسة والنذالة، ولا يمكن أبداً أن يهزم الإسلام على الإطلاق في أي مناظرة شريفة، يمكن أن ينهزم المسلمون في بعض الأحوال نتيجة ضعف القوى المادية، لكن أن يقف الباطل أمام الإسلام ويثبت في مناظرة علمية هذا مستحيل، والتأريخ ينبئنا بمصداق ذلك.