[تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء والله رءوف بالعباد)]
قال تبارك وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:٢٨ - ٣٠].
(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) أولياء جمع ولي ومعانيه كثيرة منها: المحب والصديق والنصير.
قال الزمخشري: نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرر ذلك في القرآن، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:٥١]، لذلك قال بعض الصحابة محذراً: (ليحذر أحدكم أن يصير يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، وتلا هذه الآية: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:٢٢]، إلى آخر الآية).
والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:٧٣] إذا فقد موضوع الولاء والبراء من قلوب الناس فإنه ستقع فتنة وفساد كبير جداً، إن قضية الولاء والبراء من أكثر القضايا التي تظاهرت عليها الأدلة في القرآن والسنة بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، فهي أصل متين من أصول الدين، لكن في ظل العلمانية التي تزخر بها وسائل الإعلام الآن، وفي ظل دعاوى حقوق الإنسان المزعومة، تعتبر التفرقة على أساس الدين جريمة، أما الإسلام فيفرق -لا التفرقة العنصرية- لكنه تفريق على أساس الدين؛ لأنه يقسم الناس إلى مؤمن وكافر، فالمؤمن يحب في الله ويبغض في الله، فإذا انهار هذا الجدار وقع الفساد، كما قال تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:٧٣]، وذلك كما نرى اليوم، فإن انهيار هذا الحاجز بين المسلمين والكافرين أدى إلى التمييع والذوبان بين الحق والباطل بحيث يلتبس على عامة الناس.
قوله: (من دون المؤمنين) أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، والمعنى: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان؛ لأنه كلمة (دون) تستعمل في المكان، فتقول: مثلاً: زيد دونك، أي: تحتك، وأنت لست تريد المكان، وإنما تريد أن زيداً دونك في الشرف، فجعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخِسّة كالاستفال في المكان؛ ولذلك قال تعالى هنا: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)).
وقوله تعالى: (من دون المؤمنين) أي: حال كونكم متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً، بمعنى: أن يترك المؤمنين ويوالي الكافرين، أو يوالي المؤمنين ويوالي معهم المشركين، فلا ينبغي لمؤمن أن يوالي ويحب بقلبه وجوارحه أعداء الله تبارك وتعالى.
ففيه إشارة إلى أن الأحق بالموالاة هم المؤمنون، وأنهم الذين يستحقون الموالاة، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة.
قوله تعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) أي: أن من يوالي الكفرة فليس من ولاية الله في شيء، فالله سبحانه وتعالى بريء منه وهو يفعل ذلك؛ لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان، كما يقول بعض الشعراء: تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب أي: تحب عدوي ثم تزعم أنني صديقك، ليست الحماقة عنك ببعيدة.
قوله تعالى: ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)) أي: إلا أن تخافوا منهم محذوراً، فأظهروا لهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه؛ لأن البغض بالقلب فرض عين على المسلم في كل حال؛ لكن يجوز إظهار الموالاة تقية إذا خشي على نفسه بشرطه.
كما روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم)، يعني: تقية.
فثمرة هذه الآية: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) هو تحريم موالاة الكفار.
إذاً: هناك مسالك محددة يستنبط منها الحكم بالتحريم.
والدليل على التحريم في هذه الآية هو النهي المستفاد من قوله: (لا) وهي هنا ناهية.
ومن أقوى ما يستفاد منه التحريم قوله تعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)) أي: من يوالي الكفار، ((فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)) وقضية البراء من الكفار وبغضهم في الله سبحانه وتعالى من أخطر الفتن التي يتعرض لها الناس، فلا شك أن الناس يتأثرون كثيراً بهذا الواقع.
فتضيع معالم الدين بسبب الإلحاح والتكرار على هذه المبادئ وهذه الديانة الجديدة التي طلعت تحت مسمى: حقوق الإنسان، ونحن قد ذكرنا من قبل أن أعظم حق من حقوق الإنسان هو ألا يحال بينه وبين هذا الدين، وأن من حق كل إنسان أن يسمع سماعاً صحيحاً عن الإسلام، وأن كل من يشوه الدين أو يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى أو ينفر الناس من دين الله عز وجل، فهو منتهك لأعظم حق من حقوق الإنسان.