[تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين)]
قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:٤].
قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) هذا يدل على أن المقصود بالسكينة في هذه الآية الكريمة السكينة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، أما مكانها فهو في قلوب المؤمنين، يقول ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي: جعل الطمأنينة، وهذا قاله ابن عباس، وعنه: السكنية: الرحمة، وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم.
وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب، يعني: بقوله تعالى: ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ))، فهذه الآية من أدلة القرآن الكريم على أن الإيمان يزيد، وبالتالي ينقص؛ لأن ما كان قابلاً للزيادة يكون قابلاً للنقصان، وهذه عقيدة أهل السنة، ومسألة من أمهات المسائل في الإيمان، فعند أهل السنة: أن الإيمان تصديق بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأنه قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: السكينة: السكون والطمأنينة، وقال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في البقرة.
يشير بذلك إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:٢٤٨]، فما عدا هذا الموضع في سورة البقرة فإن السكنية تعني السكون والطمأنينة.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فذلك قوله تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) يعني: بما يصدقون به من شعب الإيمان المتجددة باستمرار، والتي كانت تضاف إلى الدين بين وقت وآخر عن طريق الوحي، فهم بذلك يزدادون إيماناً مع السابق، فإيماناً يعني: تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان، وقال الربيع بن أنس: (ليزدادوا إيماناً) خشية مع خشيتهم، وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم، وقال الخشني: السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن، وهو من مبادئ عين اليقين، يعني: أن مرتبة السكينة أعلى من مرتبة علم اليقين، ومن أوائل درجات مرتبة عين اليقين بعد علم اليقين، كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور.
وقال الشوكاني: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي: السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم.
(لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) (ليزدادوا) هذا ضمير يعود إلى أهل الحديبية رضي الله تعالى عنهم أي: ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل.
قال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم يعني: كما أن المؤمن كلما آمن وتعلم شيئاً جديداً أو عمل بشيء جديد يزداد إيماناً مع إيمانه الأصلي السابق، كذلك الكافر أيضاً على الجهة الأخرى كلما كذب بشيء من الحق فإنه يزداد كفراً؛ لذلك قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:٣٧].
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، فأكمل لهم دينهم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]).
وعنه أيضاً قال: فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.