[دلالة صدر سورة الجاثية على براهين البعث]
قال العلامة الشنقيطي: اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة الجاثية ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث كثرة مستفيضة.
الأول منها: خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت؛ لأن مَن خَلق الأعظم الأكبر لاشك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر، كما قال سبحانه وتعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:٥٧]، وقال تبارك وتعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:٨١]، وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:٣٣]، وقال سبحانه وتعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:١١]، (أم من خلقنا) يشير إلى خلق السموات والأرض وما ذكر معهما كما في قوله: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:٥].
أما الثاني من البراهين المذكورة فهو خلقه تعالى للناس المرة الأولى؛ لأن من خلقهم على غير مثال سابق لاشك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى كما لا يخفى.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:٥]، إلى آخر الآيات.
وقال سبحانه تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨ - ٧٩]، وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:٢٧]، ولاشك أن إعادة الخلق أسهل من ابتدائه.
وقال سبحانه: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:٥١]، وقال سبحانه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:١٠٤]، وقال عز وجل: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:١٥]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:٦٢]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم:٤٥ - ٤٧].
وقال سبحانه وتعالى أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:١ - ٦]، إلى قوله تبارك وتعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:٧] يعني: أي شيء يحملك على التكذيب بالدين؟! والدين المقصود به هنا البعث والجزاء، أي: ما يحملك على التكذيب بالبعث والجزاء؟! وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من استطاع الإيجاد الأول فلاشك في قدرته على إعادته مرة أخرى.
وأما البرهان الثالث من براهين البعث في هذه الآيات: فهو إحياء الأرض في قوله: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا))، وقال سبحانه وتعالى موضحاً ذلك: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:٣٩]، وقال سبحانه وتعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:٥٠]، وقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:٥٧] أي: كذلك نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت.
((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)) أي: تلك آيات الله الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته.
ومن أساليب اللغة العربية: إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب، كما في قوله هنا: (تلك آيات الله)، والمقصود: هذه آيات الله القريبة، وكقوله تعالى: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:١ - ٢] بمعنى: هذا الكتاب.
ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي: أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً أنني أنا ذلك يعني: أنني أنا هذا.
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:٦] أي: بعد آياته ودلائله الباهرة.