[تفسير قوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد)]
قال تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:١٦].
: انظر إلى التشنيع عليهم بذكر هذه الوصمة التي وصموا بها وهي: (المخلفين)، فهي كلمة في غاية الإيجاع والإيلام لمن كان عنده إحساس، وإذا راجعنا حديث الثلاثة المخلفين لرأينا كيف كانوا يتألمون حينما رجع أحدهم إلى المدينة ووجد نفسه لا يرى إلا معذوراً، يرى النساء والصبيان والشيوخ الطاعنين في السن، أو يرى منافقاً انغمس في النفاق، فكان هذا سبب عذابه النفسي الشديد بسبب التخلف عن النبي عليه الصلاة والسلام.
(قل للمخلفين) ذكرهم بهذا اللفظ مبالغة في الذم، وإشعاراً بشناعة التخلف، (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) فيما بعد ستأتيكم فرصة جديدة إن أردتم أن تفتحوا صفحة جديدة، فإننا سوف نتيح لكم فرصة غير هذه الفرصة.
وقد اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين سيدعون إليهم وهم أولوا بأس شديد على أقوال: أحدها: أنهم هوازن، وهذه غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل: ثقيف وهذه أيضاً غزاها عليه الصلاة والسلام.
وقيل: بنو حنيفة وهم أهل اليمامة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب، وقد غزاهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
وقيل: إنهم أهل فارس.
وقال كعب الأحبار: هم الروم الذين خرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم عام تبوك، وإليهم بعث سرية مؤتة.
وقيل: هم فارس والروم، وهؤلاء غزاهم عمر رضي الله تعالى عنه.
وقال مجاهد: هم أهل الأوثان.
وعن مجاهد: هم رجال أولوا بأس شديد ولم يعين فرقة، وهذا اختيار ابن جرير.
وعن الزهري في قوله: (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال: لم يأت أولئك بعد، لكن ظاهر الآية يرد هذا؛ لأن الآية تخاطب نفس المخلفين أنهم سيدعون إلى أناس أولي بأس شديد، فبعيد جداً أن نقول: إن هذا يكون في آخر الزمان أو أنهم قوم لم يأتوا بعد.
قال القاسمي رحمه الله تعالى: ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة، ولو عد من الأوجه كفار مكة لم يبعد، بل عندي هو الأقرب؛ لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة، مذ صرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وعلى إثرها كانت غزوة الفتح الأعظم التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو ليسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً، والله تعالى أعلم.
فـ القاسمي يميل إلى أن هؤلاء هم مشركو مكة.
(ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال الألوسي: ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري: هم بنو حنيفة: مسيلمة وقومه من أهل اليمامة، وعليه جماعة.
وفي رواية عنه زيادة: هم أهل الردة.
لماذا مسيلمة بالذات ألصق الله به لقب الكذاب وكلهم كذابون؟ لأن هذا الخبيث شارك الله سبحانه وتعالى في اسم يختص به، وسمى نفسه: رحمان اليمامة، وهذا الجرم لم يفعله أحد غيره، حيث سمى نفسه باسم يختص به الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إطلاقه على غير الله أبداً بحال من الأحوال؛ فعوقب بأن ألصق الله اسمه بلقب الكذاب، مع أن كل المتنبئين كذابون.
عن رافع بن خديج قال: إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها، والآية هي: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون).
قال الألوسي: وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.