وما ألطف قول أبي إسحاق الصابئ في طليعة كتاب له بعد الثناء على الله تعالى، يقول: وبعث إليهم رسلاً منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصراً صلى الله عليه وسلم، وأولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً، وأوضحهم حجة وبرهاناً، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية.
محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، الذي اتخذه صفياً وحبيباً، وأرسله إلى عباده بشيراً ونذيراً، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدود عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدم الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم.
أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذات الله أبية، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً.
فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيداً، وبالعنف لما وجد أنصاراً وجنوداً، لا يرى للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه، ولا رسماً إلا أزاله وعفَّاه، ولا حجة منوهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها، حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات، والتأم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتوادعت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.