يقول القاسمي رحمه الله تعالى:((وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)): حناناً ورقة على الخلق؛ لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام من الشفقة وهضم النفس والمحبة.
وهذه كما قلنا هي في الذين اتبعوه على دين الإسلام والتوحيد، فلا يقال: إن القرآن مدح الوحوش الصربية الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، والذين لا يعرفون الرقة والرحمة، أو أصحاب المذابح التي كانت في لبنان، أو المذابح التي حصلت في جزر الملوك في أندونيسيا على يد الصليبيين، من ذبح المسلمين وإحراقهم، فأين هي الرأفة والرحمة من هؤلاء؟ وأين الرأفة والرحمة التي كان يمارسها الأوربيون الأمريكان والكنديون في الصومال في حملة بعث الأمل أو إحياء الأمل، حينما كان يتسلى الجنود بأنهم يأتون بالأخ الصومالي ويشووه على النار وهو حي، ثم يضحكون ويمرحون ويتسلون بآلامه وصراخه؟! فهؤلاء لا يقتدون بالمسيح عليه السلام ولا بدعوته، إنما المقصود هنا الذين اتبعوه من المسلمين، أما الكافر فكيف نقول: إن في قلبه رأفة ورحمة، واسألوا محاكم التفتيش في الأندلس: ماذا فعلوا في المسلمين؟! واسألوا البعوث الصليبية وما فعلوه في فلسطين لما دخلوا القدس وجرت الأنهار من الدماء، فكلام الرقة والرأفة والرحمة مع هؤلاء الناس ومداهنتهم بآيات القرآن مما لا يجوز؛ لأن قوله تعالى:((وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)) إنما هو في اتبعوا المسيح على الإسلام وعلى الدين الحق.
وكان في عهد المسيح عليه السلام أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، فالمسيح عليه السلام عانى من هاتين الأمتين اللتين هما من أشد الأمم قسوة وبطشاً: اليهود لعنهم الله، والرومان أيضاً لعنهم الله، والرومان كانوا أشد قسوة؛ لأن اليهود على الأقل كانوا كتابيين، لكن الرومان كانوا وثنيين.
وقد كان لهم أساليب في تعذيب النوع البشري، ومنها تكليف الوحوش المفترسة بالانقضاض على من يريدون تعذيبه، وكانوا يربونها لذلك، وهذا معروف ومشهور؛ حيث إنهم كانوا يأتون إلى الساحات العامة، ويأتون بأسود جائعة ويسلطونها على من يريدون تعذيبه!! وصبغ الأسكندرية بالصبغة الرومانية واليونانية من جديد ما هي إلا مسخرة؛ وصبغ المدن الأخرى بالصبغة الفرعونية شيء يؤسف في الحقيقة، فالله المستعان.
أما الوحشية فما زالت موجودة عند الغربيين عموماً، فالغربيون عندهم تلذذ بهذه الأمور الوحشية، فهم يتلذذون جداً بما يحصل في أسبانيا من مصارعة الثيران، ويتسلون إذا قتل الثور الشخص الذي يصارعه، ويقعدون ينظرون ويتلذذون بذلك؛ لأن في نفوسهم حباً لهذا العنف وهذه الوحشية، وهم أخذوا هذه النفسية الأوروبية أو الغربية من جذور الحضارة اليونانية والرومانية، فالعنف والقتل والإحراق والتخريب والتدمير هذا شيء يتلذذون به جداً.
يقول: وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، وهؤلاء أشد قسوة وأعظم بطشاً، لاسيما في العقوبات، فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشري، ومنها: تسليط الوحوش المفترسة عليه، وتربيتها لذلك، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها وجاهدت في مطاردتها، وصبرت على منازلتها حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره، كما بينه الله عز وجل في آخر سورة الصف:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}[الصف:١٤]، فكانت العاقبة لأتباع المسيح عليه السلام.
فقوله تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، أي: ما فرضناها عليهم، وإنما التزموها من عند أنفسهم.
وقوله:((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله عنهم.