[تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما)]
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله: ((فلما بلغا مجمعا بينهما نسيا حوتهما)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن موسى وفتاه نسيا حوتهما لما بلغا مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى؛ لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه، وإنما أسند النسيان إليهما؛ لأن إطلاق المجموع مراداً بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب، وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي (فإن قَتَلُوكم فاقتلوهم).
فلو قتلونا كلنا لم يبق منا أحد فيقتلهم؛ لكن المقصود: فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر.
قال: والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:٦٢ - ٦٣]؛ لأن قول موسى: ((آتنا غداءنا)) يعني به الحوت، فهو يظن أن فتاه لم ينسه.
كما قاله غير واحد، وقد صرح فتاه بأنه نسيه بقوله: ((فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)).
وفي قوله عز وجل: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:٤٢]، وبقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:٦٨]، وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:١٩].
وفتى موسى هو يوشع بن نون، والضمير في قوله تعالى: ((مجمع بينهما)) عائد إلى البحرين المذكورين في قوله تعالى: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} [الكهف:٦٠]، والمجمع: اسم مكان على القياس، أي: مكان اجتماعهما.
والعلماء مختلفون في تعيين البحرين المذكورين، فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب.
وقال محمد بن كعب القرظي: ((مجمع البحرين)) عند طنجة في أقصى بلاد المغرب.
يعني: في المكان الذي يلتقي فيه البحر الأبيض بالمحيط الأطلنطي عند مضيق جبل طارق.
وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر، وقال ابن عطية: مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام.
وقيل: هما بحر الأردن والقلزم.
وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم: بحر أرمينية، وعن أبي بن كعب قال: بإفريقيا، إلى غير ذلك من الأقوال، ومعلوم أن تعيين البحرين من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه.
وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين: أن موسى لم يسافر إلى مجمع البحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تأريخه، لأن الجغرافيا في هذا الوقت لم تكن معروفة، وهذا زعم في غاية الكذب والبطلان، ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى: ((فلما بلغا مجمع بينهما)) مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى: ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل؛ لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء، لاستحالة صدق النقيضين معاً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) قرأه عامة القراء ما عدا حفص ((أنسانيه إلا الشيطان)) وقرأه حفص عن عاصم ((أنسانيه)) بضم الهاء.