[اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (منفكين)]
يقول الشيخ عطية رحمه الله: اختلف في (منفكين) اختلافاً كثيراً عند جميع المفسرين، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء.
ثم أشار إلى وجود إشكال في هذه الآية، لكنه لم يفصل، ولم يبين وجه الإشكال؛ ولذلك يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم بينة، والبينة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان شيخنا الشنقيطي يبين الإشكال، ثم بعد ذلك في مرحلة ثانية يرد على هذا الإشكال.
فالشيخ عطية يريد هنا أن يقول: إنّ الرازي نقل أنّ هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، يعني: في تفسيرها، ومع ذلك لم يبين وجه صعوبة هذه الآية، ولا وجه الإشكال، فالمرحلة الأولى يريد الشيخ عطية سالم رحمه الله أن يستخرج الإشكال، ثم في مرحلة لاحقة سوف يرد على هذا الإشكال.
ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء الذي لم ينفك عنه الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، فقيل: هو الكفر الذي كانوا عليه، إذاً فقوله: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ)) أي: عن الكفر الذي كانوا عليه حتى تأتيهم البينة، والتي هي الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الشيخ عطية بعد ذلك: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هناك تناقض في الظاهر بين الآية الأولى والآية الثانية، وأما في حقيقة الأمر وعند تحرير المسألة فلابد أن يرتفع التناقض، فلا يمكن أبداً أن يقع تناقض في القرآن الكريم، بل إنّ القرآن الكريم يصدق بعضه بعضاً، فالإشكال يكون في عقولنا وفي أفهامنا نحن، فإذا رجعنا إلى الراسخين في العلم أزالوا لنا هذا الإشكال بما لديهم من ملكات تؤهلهم لذلك.
ففي الجزء الأول من الآية: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أنهم لن يتركوا الشرك والكفر الذي هم عليه حتى تأتيهم البينة، فمعنى ذلك أن البينة إذا جاءت فسوف يزول عنهم ذلك الشرك، وسوف ينفكون عنه، وفي الآية الأخرى: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أنهم لما جاءتهم البينة ازدادوا كفراً وتفرّقاً، في حين أن صدر السورة يُفهم أن البينة إذا جاءت فسيزول عنهم الشرك.
وقد سبق أن بينا في أثناء الكلام أن فريقاً من العلماء قال: إن الشطر الأول من الآيات يتكلم فيمن آمن فعلاً لما جاءته البينة، وأما قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ} [البينة:٤] إلى آخره، فهي في شأن الذين لم يهتدوا ولم يؤمنوا بعدما جاءتهم البينة، فهذا فريق وهذا فريق.
وهذا الإشكال مبني على أن منفكين بمعنى: تاركين، وعليه جميع المفسرين، والذي جاء عن الشيخ رحمه الله تعالى: أن معنى (منفكين) أي: مرتدعين عن الكفر والضلال ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) يعني: وقد أتتهم.
يقول: ولكن في (منفكين) وجه يرفع هذا الإشكال، وهو أن تكون (منفكين) بمعنى: متروكين، لا بمعنى تاركين، أي: لم يكونوا جميعاً متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة، يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما كان ليتركهم سدى، ولا ليهملهم حتى تقوم عليهم الحجة، وهذا مثل قول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:٣٦] يعني: لا نوحي إليه وحياً، ولا نجعل له حساباً ولا جزاءً، ومثل قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢] أي: أنهم لن يتركوا، وقريب من هذا قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:٥٣].
وقد حكى أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة، ويتم على من آمن به النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، فالله سبحانه وتعالى لابد أن يرسل إليهم رسولاً يقيم عليهم الحجة، فهذا القول يزيل هذا الإشكال الكبير عند المفسرين.
يقول: ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله، وأورد في الكلام على هذه السورة، وفي كون المشركين وأهل الكتاب لم يكونوا منفكين ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين: هل المراد: لم يكونوا منفكين عن الكفر؟ أو المراد: لم يكونوا مكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث؟ يعني: أنهم قبل أن يبعث لم يتركوا التصديق به؛ لأنهم يعرفون صفته من كتبهم، لكن لما بُعث كفروا به وجحدوا، أو أن المراد: أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول؟ وهذا هو الراجح كما قلنا.
وناقش شيخ الإسلام تلك الأقوال وردها كلها ثم قال: فقوله: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ)) أي: لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم على هواهم يفعلون ما يهوونه ولا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه إلى أن قال: فالمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:٣٦] أي: لا يؤمر ولا ينهى، يعني: أيظن أن هذا يكون؟! فهذا ما لا يكون البتة، بل لابد أن يؤمر وينهى.
وقريب من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:٣ - ٥]، فقوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) [الزخرف:٥] أي: أنعرض عنكم بسبب إشراككم؟! فهذا استفهام إنكاري بمعنى: ألأجل إشراككم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل؟! فهذا ما لا يكون.
فتبين من ذلك كله أن الأصح في تفسير قوله تعالى: ((مُنفَكِّينَ)) أي: متروكين، وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى وبالله التوفيق.