للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع القلوب مع آيات الله تعالى]

ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت، فذلك الذي لا قلب له، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه؛ لأن الآية في حق من كان له قلب حي واع، فالذي قلبه ميت لا يدخل في الآية.

الرجل الثاني: رجل له قلب حي مستعد؛ لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضراً، فهذا أيضاً لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.

وهذا حال كثير من الكفار.

والثالث: رجل حي القلب مستعد، تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمع، فهو شاهد القلب ممكن السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.

فالأول الذي هو صاحب القلب الميت بمنزلة الأعمى الذي لا يذكر.

والثاني له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات لسبب أو لآخر، فهو بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يرى.

أما الثالث: فرجل حي القلب مستعد، أصغى بسمعه وأحضر قلبه ولم يشغل قلبه إلا بفهم ما يسمعه، فهذا بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور وأتبعه بصره، وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يرى، فسبحان من جعل كلامه شفاءً لما في الصدور.

فإن قيل: فما موضع (أو) من هذا اللفظ بناءً على هذا التفسير، أي: في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}؟ قيل: فيها سر لطيف.

ولسنا نقول: إنها بمعنى الواو كما يقوله ظاهرية النحاة: (وألقى السمع).

يقول: فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور، نور الفطرة مع نور الوحي.

وهذا كما يقولون في الهندسة: تمام الانطباق.

فما في الأمر إلا أنه ينتظر الحق أن يأتي -وهو نور الوحي- على نور الفطرة الذي في قلبه، فيتطابقان تمام الانطباق، ويمتزجان تمام الامتزاج، ويلتقيان أتم التقاء، وهي حالة سليم الفطرة حي القلب.

وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيماناً وبصيرة، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد لهم، وهذا يحصل في الحقيقة لمن عوفي ولم يبتل بالفلسفة والجدل والتنطع والحذلقة، وعوفي من شبهات أعداء الدعوة وأعداء الدين.

فكثير جداً من الشباب غير ملتزم، فعندما تصله دعوة الحق ينقاد، وعندما يتعود الإنسان على ترك الجدل، تجده ينقاد إلى الحق؛ لأنه الحق ودين الفطرة، فتجد امرأة في غاية التبرج لم تكن قد وصلها الحق ولا الحجة، فبمجرد أن تسمع الأدلة نفاجأ بأنها يمكن أن تنقلب فتعتزل التبرج إلى الاحتجاب الكامل، أي: وهذا يوجد وإن كان قليلاً.

وحين نجد الكثير من الفتيات يقلن: لنقتنع أولاً! فهؤلاء قد يكن من النوع الثاني إذا استجبن بعد مجادلة ومناظرة وإقامة للحجة.

فإذاً: الشخص الذي له قلب وقاد مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التفكر والاعتبار، فالقلب أصلاً فيه نور الفطرة سليم، وهذا دين الفطرة، فإذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور، كما قلنا من قبل في تفسير سورة النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:٣٥] يعني: نور الفطرة مع نور الوحي.

وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيماناً وبصيرة، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد لهم، ولكن لم يشعروا بتفصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حال الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم كمثل رجلين دخلا داراً، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته، والآخر وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته، لكن علم أن فيها أموراً عظيمة لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا فسأله عما رأى في الدار، فجعل كلما أخبره بشيء صدقه؛ لما عنده من شواهده، وهذه أعلى درجات الصديقية، ولا تستبعد أن يمن الله المنان على العباد بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حساب.