للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاءً)

يقول العلامة الشنقيطي في قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً}: الضمير في ((أَنشَأْنَاهُنَّ)) قال بعض أهل العلم: هو راجع إلى مذكور.

وقال بعض العلماء: هو راجع إلى غير مذكور، إلا أنه دل عليه المقام.

فمن قال إنه راجع إلى مذكور قال: هو راجع إلى قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة لباساً وإزاراً وفراشاً إلى آخره.

انتهى كلامه.

وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله تعالى: ((مَرْفُوعَةٍ)) رفع المنزلة والمكانة.

ومن قال إنه راجع إلى غير مذكور قال: إنه راجع إلى نساء لم يذكرن ولكن ذكر الفرش دل عليهن؛ لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن.

وقال بعض العلماء: المراد بهن الحور العين، واستدل من قال ذلك بقوله: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:٣٥]؛ لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع.

وقالت جماعة من أهل العلم: إن المراد بهن بنات آدم اللاتي كن في الدنيا عجائز شمطاً، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} نساء الدنيا، أي: زوجاتهم اللائي هن من نساء الدنيا.

فيكون قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} أي: خلقناهن خلقاً جديداً.

فاللتي شمطت وصارت عجوزاً شمطاء في الدنيا وبلغت من الكبر عتياً، حينما تدخل الجنة ينشئها الله سبحانه وتعالى خلقاً جديداً، فتعود إلى شرخ الشباب.

ويكون قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} يعني: فصيرناهن أبكاراً.

وهو جمع بكر، وهي ضد الثيب.

{عُرُبًا أَتْرَابًا}، والعروب هي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، التي تجتهد في إرضاء زوجها.

أَتْرَابًا: جمع ترب، والترب هي المرأة الموافق سنها سن من تضاف هي إليه من النساء.

ومعناه في الآية أن نساء أهل الجنة على سن واحدة ليس فيهن شابة وعجوز، ولكنهن كلهن على سن واحدة في غاية الشباب، ودليل ذلك في الحديث في مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة العجوز حينما قال لها: (لا تدخل الجنة عجوز) وكان إنما يقصد بهذا المعنى أنها ستعود إلى شبابها ولن تبقى عجوزاً بعد ذلك إذا دخلت الجنة.

وبعض العلماء يقول: إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاث وثلاثين سنة.

وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب، كما قال عمر بن أبي ربيعة: أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب وهذه الأوصاف الثلاثة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة من صفات نساء أهل الجنة جاءت موضحة في آيات أخر.

أما كونهن يوم القيامة أبكاراً فقد أوضحه قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٥٦]، لأن قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} نص في أنهن أبكار.

وأما كونهن (عُرُبًا) -أي: متحببات إلى أزواجهن- فقد دل عليه قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:٤٨]، لأن معناه أنهن قاصرات العيون على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لشدة محبتهن لهم واقتناعهن بهم، ولا شك أن المرأة التي لا تنظر إلى غير زوجها متحببة إليه حسنة التبعل له.

وقوله تعالى في (ص): {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:٥٢]، وقال تعالى في سورة الرحمن: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٥٦].

وأما كونهن أتراباً فقد بينه قوله تعالى في آية (ص): {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:٥٢]، وفي سورة النبأ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:٣١ - ٣٣]، يعني: في نفس السن من الشباب.

قوله تعالى: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:٣٨] يعني: إنا أنشأناهن لأصحاب اليمين، {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}.