[غائلة الاستئذان والتثاقل في الخروج للجهاد]
استدل بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحياناً بالاجتهاد، كما قال الرازي.
وقال السيوطي في الإكليل: استدل بها من قال: إن اجتهاده قد يخطئ، ولكن ينبه عليه بسرعة.
قال الرازي: دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب والإبعاد.
وقيل: نفي الفعل للمستقبل الدال على الاستمرار في قوله تعالى: (لا يستأذنك) معناه: أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر).
قال الناصر: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} [التوبة:٤٤] إلى آخره، فهذا بيان أن هذا شأن المؤمنين، وأنه لا يقع منهم هذا الفعل، فهو ينفي هذا الأمر ووقوعه في المستقبل، وواضح أن هذه الصيغة تفيد الاستمرار.
فهذا الأدب ينبغي أن يتحراه ويقتفيه المؤمن مطلقاً، فلا يليق المرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، إذ ليس من الأدب ولا المروءة أن تقول للضيف: هل أكلت أم لا؟ لكن تحضر الطعام، هذا هو الكرم، وهذه هي المروءة الإسلامية، يحضر له الطعام ما دام يملكه؛ لأنه قد يحرج ويقول لك: لا، لكن الأصل أن الإنسان يقدم الطعام دون استئذان.
وعندما نراجع أخلاق الخليل إبراهيم عليه السلام، فإنه ما قال لهذا الوفد الذي أتاه: هل أحضر لكم طعاماً؟ أو: هل أنتم محتاجون إلى طعام؟ لا، المقصود من أدب الأخوة: ألا يحوج أخاه أن يطلب منه شيئاً، يعني: إذا انتظرت حتى يطلب منك أخوك الإعانة على معروف أو على أمر يحتاجه، فهذه درجة متدنية من الأخوة، ومن التقصير أن يحوج أخاه إلى أن يطلب منه، والمقصود: أنه يتوخى ويتحرى حاجة أخيه، وكيف يسدها له قبل أن يلجئه إلى الطلب منه.
يقول هنا: فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، أي: أنه لم يكن يظهر أمامهم استعداداً بأنه يهيئ نفسه للضيافة، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة، فقال تبارك وتعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:٢٦] (فراغ) أي: اختفى وما أظهر لهم أنه يستعد وليس بمرأى من ضيوفه، فلا يتصل بالتليفون بالمحل أمام الضيوف أحضر كذا وكذا، ولا يظهر أنه يعد طعاماً، لا، بل اختبأ يعد في السر، ثم يعرضه عليهم، والمهتم بأمر ضيفه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، إن كان معك ضيف وفي الطريق تشتري له كذا وكذا من المشروب والأكل، هذا أيضاً فيه إظهار التهيؤ للضيافة، وكأنك تستأذنه: هل أضيفك أم لا؟! والكريم يعرض الطعام على الضيف ثم إذا شاء أكل، وإن شاء امتنع عن الطعام، لكن لا يستأذن الضيف، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو القوة.
وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين: التثاقل عن المبادرة إليه، وإذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم من شأنهم لعلو كعبهم في الإيمان وشرفهم وعلو هممهم، لا يمكن أن يقع منهم أبداً استئذان في الخروج عن الجهاد، ولا يمكن أن يستأذنوا أبداً، فهذا ليس من شأن المؤمنين: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} [التوبة:٤٤].
وأشد من ذلك ليس فقط الاستئذان كما فعل المنافقون، بل أشد من ذلك أيضاً: التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة، فقد حضهم الرسول عليه السلام وناداهم وكلفهم، ثم بعد ذلك اعتذروا واستأذنوا في الخروج! وأسوأ أحوال المتثاقل وقد دعي الناس إلى الغزاة: أن يكون متمسكاً بشعبة من النفاق، نعوذ بالله من التعرض لسخطه!