[تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم)]
قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:١١٥].
هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى، كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فقوله تعالى: ((إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، ظاهر في أن هذا وقع في الحقيقة؛ لأن بعض المفسرين ذهبوا إلى أنها لم تنزل، لكن قوله تعالى: ((قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، يدل على أن نزولها حق.
فقوله: (منزلها عليكم) أي: إجابة لدعوتكم.
(فمن يكفر) بي وبرسولي (بعد) أي: بعد تنزيلها المفيد للعلم الضروري بي وبرسولي (منكم) أيها المنعمون بها (فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين) أي: من عالم زمانهم أو من العالمين جميعاً.
ويحكى عن ابن عمر أنه قال: (إن أشد الناس عذاباً ثلاث طوائف: المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ومن كفر من أصحاب المائدة؛ لهذه الآية: ((فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)) وآل فرعون؛ لقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦]، فهؤلاء المتقدمون هم أشد الناس عذاباً.
روى ابن جرير بسنده إلى قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: (فمن يكفر بعد منكم) إلى آخره قالوا: لا حاجة لنا فيها.
فلم تنزل أي أنهم قالوا: إذا كانت المسألة بهذه الصورة أن العذاب سيتضاعف علينا إذا نزلت وكفرنا فلا حاجة لنا فيها.
أي أنهم استعفوا من ذلك فلم تنزل.
وقال مجاهد: هو مثل ضربه الله ولم يَنْزِل شيءٌ، أي: مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن المسألة لأنبيائه، وقال الحافظ ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك؛ لأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم.
ثم قال: ولكن الجمهور يرون أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، وذلك لأن القرآن حاكم ومهيمن على الكتاب السابق، فعدم وجودها في كتابهم لا يدل على أنها لم تقع، لماذا؟ لأن القرآن مهيمن، فإذا أخبر القرآن بأنها وقعت فقد وقعت حتى ولو لم يرد لها ذكر في كتابهم؛ لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله لله: ((إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، ووعد الله ووعيده حق وصدق، وهذا القول -والله تعالى أعلم- هو الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.