فنتجاوز عن شرح هذه الوصية بالتفصيل، ونذكر بقصة إسلام عالم من أكبر علماء النصارى في القرن التاسع الهجري، كان يعيش في الأندلس، وهو من جزيرة مايورقا، وهي جزيرة في جنوب إيطاليا، وهي ومن أجمل الأماكن في العالم، واشتهر بالترجمان أبي محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان المايورقي، توفي سنة (٨٣٢) من الهجرة.
وقد ذكر هو قصة إسلامه في كتاب له يسمى:(تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) وقد ذكر قصة طويلة يقول فيها: إنه لازم أحد القساوسة الكبار، ثم قال: فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوماً من الدهر فتخلف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعدي نبي اسمه الفارقليط، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء؟ وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم -أي: اختلفوا اختلافاً كبيراً- وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة.
فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم الفارقليط، وأن فلاناً قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل، فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل.
يقول إنثل: فبادرت إلى قدميه أقبلهما وقلت له: يا سيدي! قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جليل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم، فبكى الشيخ، وقال لي: يا ولدي! والله إنك لتعز عليّ كثيراً من أجل خدمتك لي، وانقطاعك إلي، إن في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف أن يظهر ذلك عليك فتقتلك عامة النصارى في الحين، فقلت له: يا سيدي! والله العظيم، وحق الإنجيل ومن جاء به! لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك.
فقال لي: يا ولدي! إني سألتك في أول قدومك علي عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم؟ لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام.
يعني: مدى حساسيتك للمسلمين، هل تكره المسلمين أم لا؟ فاعلم يا ولدي! أن (الفارقليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، قلت له: يا سيدي! وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي! لو أنّ النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا.
فقلت له: يا سيدي! وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي! بالدخول في دين الإسلام.
قلت له: هل ينجو الداخل فيه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة! فقلت: يا سيدي! إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال لي: يا ولدي! إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي الإسلام إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعلم والشرف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم، وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً، فسيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك في الدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي، فأموت بينهم جوعاً، وأنا -والحمد لله- على دين عيسى، وعلى ما جاء به يعلم الله ذلك مني! فقلت له: يا سيدي! أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي: إن كنت عاقلاً طالباً للنجاة فبادر إلى ذلك، تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي! هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه غاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني فإني أجحدك، وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، فأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء من هذا، فقلت: يا سيدي! أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا، وعاهدته بما يرضيه إلى آخر القصة، وهي طويلة.