[سبب نزول سورة الحشر]
اتفق المفسرون على أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر، قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة، فإنه لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة، فأخبر جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر بقتل كعب، فقتله محمد بن مسلمة غيلة وكان أخاه من الرضاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمَين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة، فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله عليه وسلم، وأرادوا اغتياله صلى الله عليه وسلم، فأوحي إليه بذلك، وعصمه الله تعالى منهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧].
ولما قتل كعب أمر صلى الله عليه وسلم بالمسيرة إليهم، وطالبهم بالخروج من المدينة، فاستمهلوه عشرة أيام كي يتجهزوا للخروج، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين سراً ألا تخرجوا من الحصن، ولا تمتثلوا أمره بالجلاء، ووعدهم بنصرهم بألفي مقاتل من قومه، ومساعدة بني قريظة وحلفائهم من غطفان أو الخروج معهم، فتآمروا مع رأس النفاق في المدينة عبد الله بن أبي، فدربوا أنفسهم، وامتنعوا بالتحصينات الداخلية، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة.
وقيل: أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج إليك ثلاثون منا؛ ليسمعوا منك، فإن صدّقوا آمنا كلنا، ففعل، فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون؟ أي كيف نفهم دعوة الإسلام، وأدلة النبوة، ونحن ستون: أنتم ثلاثون، ونحن ثلاثون؟! اخرج في ثلاثة، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا يناظرونك، يناظرونك عن الإسلام، ففعلوا، فاشتملوا على الخناجر، أي: أخفوا الخناجر، وأرادوا الغدر، فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها -وكان مسلماً- فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين الذي وعدهم به ابن أبي، فطلبوا الصلح، فأبى عليهم صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء، على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع إلا الحلقة -وهي أدوات السلاح- فكانوا يحملون كل ما استطاعوا عليه ولو أبواب المنازل، فكانوا يخلعون أبواب المنازل ويحملونها معهم، كما قال تعالى: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ))، فكانوا يحملون ما استطاعوا معهم، فانظر إلى العبرة، والى مشيئة سبحانه وتعالى الذي جعلهم يخربون بيوتهم، فينقضونها ويهدمونها بأيديهم بعد أن كان المسلمون ينظرون إليهم على أنهم قوة قوية ومنعة منيعة، وحصون لا تُهد.
يقول الشيخ عطية رحمه الله: وقد ذكرنا هذه القصة في سبب نزول هذه السورة؛ لأن عليها تدور معاني هذه السورة كلها، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في أصول التفسير: إن معرفة السبب تعين على معرفة التفسير، وليعلم المسلمون مدى ما جُبل عليه اليهود من غدر، وما سلكوه من أساليب المراوغة، فما أشبه الليلة بالبارحة، وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أسند إخراجهم إلى نفسه عز وجل، فقال: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) مع وجود حصار المسلمين لهم، وقال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:٢٥]، فذكر عز وجل أنه هو الذي رد الذين كفروا بغيظهم، ولم يبين السبب الذي ردهم به.
أي: أن الإرادة والمشيئة الحقيقة هي إرادة الله، وأما السبب الذي به تنفذ إرادة الله فهم جند الله كالريح والملائكة وغير ذلك من جنود الله، ولذلك قال عز وجل في شأن هؤلاء الأحزاب الذين قال فيهم: ((وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ)) [الأحزاب:٢٥]، قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:٩]، فرد الله غيظهم بأسباب كالريح والجنود التي لم يرها المؤمنون، وكذلك هنا: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ)) فأسند إخراجهم إليه تعالى مع حصار المسلمين إياهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب الحقيقي لإخراجهم في قوله عز وجل: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))، فهذا من أهم أسباب إخراجهم، وسبب قذف الله تعالى الرعب في قلوبهم أنهم كانوا في موقف القوة وراء الحصون، ولم يتوقع المؤمنون خروجهم، ((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا))، وقد كان هذا الإخراج من الله لهم بوعد سابق من الله لرسوله، وهو في قوله عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:١٣٧]، فقوله: ((فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ)) خبر ووعد من الله سبحانه وتعالى أنه سوف يكفيه إياهم، وبهذا الإخراج تحقق كفاية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إياهم، فقد كفاه إياهم بإخراجهم من ديارهم، فكان إخراجهم حقاً من الله تعالى، وكان بوعد مسبق من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أكد هذا بقوله تعالى مخاطباً المسلمين في خصوصهم في أوقات الجلاء، فقال الله عز وجل للمؤمنين: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:٦]، وتسليط الرسول صلى الله عليه وسلم هو بما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، فإذا كان ينصر بالرعب من مسيرة شهر فما ظنك بمسيرة ميلين من المدينة، فلا شك أنه أولى أن يُقذف الرعب في قلوبهم، وهذه من خصائص النبي عليه الصلاة السلام على غيره من الأنبياء فضلاً عن سائر البشر.
إذاً: فالذي أخرجهم في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر:٦]، وسلط عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرعب، (نصر بالرعب مسيرة شهر)، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) أي: من قلوبهم، فقد أُلقيتْ الهزيمة في قلوبهم، وقد كانوا يظنون أنهم مانعتهم حصونهم من الله، بل كان المؤمنون أنفسهم يظنون ذلك كما قال الله: ((مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا))، فالمؤمنون أنفسهم كانوا يظنون أنهم لا يستطيعون أن يخرجوهم؛ لشدة تحصنهم في هذه الحصون المنيعة، وكذلك كان اليهود أنفسهم في غاية الثقة بما هم عليه من الحصون، ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) أي: من جهة قلوبهم، فألقى الرعب في قلوبهم، ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم.
ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:٦]، وذلك أن المسلمين تطلعوا إلى حظهم من هذا المال الذي غنموه من اليهود، فبين الله سبحانه وتعالى لهم وأفتاهم أن هذا إنما هو للرسول عليه الصلاة السلام خاصة يتصرف فيه بما يشاء، وليس غنيمة للمسلمين؛ لأنه لم يكن لهم أي فضل في إخراج اليهود، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:٦] أي: أنكم ما أسرعتم بالخيل، ولم تقاتلوا، ولم تفعلوا شيئاً، وسيأتي ذلك بتفصيل إن شاء الله تعالى.
إن السياق هنا في هذه السورة في شأن اليهود لعنهم الله، وهو يتفق مع السياق في سورة الأحزاب في شأن بني قريظة سواء بسواء، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:٢٦ - ٢٧]، وعليه ظهرت حقيقة إسناد إخراجهم لله تعالى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)).
كما أنه تعالى هو الذي ردَّهم فقال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:٢٥]، وذلك بما أرسل عليهم من الرياح والجنود، وهو الذي كفى المؤمنين القتال كما في قصة الأحزاب {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:٢٥]، وهو تعالى أيضاً الذي أنزل بني قريظة من صياصيهم، وأورث المؤمنين ديارهم وأموالهم، وكان الله على كل شيء قديراً، ورشح لهذا كله التذييل في آخر الآية.
أي: أن التذييل في آخر الآية هو الذي يقوي هذا المعنى من أن الإخراج في الحقيقة هو إخراج الله سبحانه وتعالى، وقد يجعل الله بعض الأشياء في الظاهر هي سبب هذا الإخراج كالملائكة أو الريح كما حصل في غزوة الأحزاب، أو كإلقاء الرعب في قلوب اليهود لعنهم الله كما حصل في بني النضير.
ولذلك جاء التذييل هنا بقوله تبارك وتعالى: ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ))، فهذا التذييل يطلب الاعتبار والاتعاظ بما فعل الله بهم، أي: اعتبروا واتعظوا بإخراج الذين كفروا من حصونهم وديارهم ونواصي قوتهم، ((مَا ظَن