للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دخول المؤمنين من الجن الجنة]

قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم) أي: ويقيكم من عذابه الأليم، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة.

قال أبو حنيفة: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا تراباً مثل البهائم، وهذا قول الحسن.

وقال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله.

وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة، يجازون في الإحسان مثل الإنس، وإليه مال مالك والشافعي وابن أبي ليلى.

وقال الضحاك: الجن يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون.

ودليل هذا المذهب قوله تبارك وتعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٥٦]، قال ابن كثير: والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:٥٦]-فيدل على أن الجن قد يثابون أيضاً بالحور العين- وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:٤٦ - ٤٧]، فهو خطاب للإنس والجن، فالله سبحانه تعالى يقول: (ولمن خاف) وهذه صفة عموم، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، فقد امتن الله تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد؛ فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم.

وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى.

ومما يدل أيضاً على ذلك عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:١٠٧]، وما أشبه ذلك من الآيات.

أيضاً من الأدلة: أن هذه الجنة يبقى فيها متسع بعدما يدخل الله كل الخلق ممن يستحقون الجنة، حتى أن الله سبحانه وتعالى ينشئ لها خلقاً جديداً يسكنهم الجنة، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحاً؟! وما ذكروه هنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشرع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم.

هذا كلام ابن كثير.

هذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح:٤]، وفي هؤلاء المخاطبين من آمن من قوم نوح، فهل الآية اقتصرت فقط على ذكر أن ثوابهم إذا آمنوا وأطاعوا أن يغفر الله لهم ذنوبهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى وأنهم لا يدخلون الجنة؛ لأنه لم يذكر ذلك في هذه الآية؟ لا خلاف أن مؤمني قوم نوح في الجنة، فكذلك هؤلاء.

قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:١٩]، يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة؛ لأنه قال في أول الآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام:١٣٠]، إلى أن قال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:١٣٢].

(ولكل) يعني: الإنس والجن، والله تعالى أعلم.

قال الله في الترغيب: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:٣١]، ثم قال تعالى في الترهيب: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:٣٢] أي: لا يفوت الله، ولا يسبقه، ولا يقدر على الهرب منه؛ لأنه إن هرب كل مهرب فهو في الأرض، ولا سبيل له إلى الخروج منها، وفي قوله: {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:٣٢] أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله، وبين سبحانه وتعالى بُعد استحالة نجاته بوساطة غيره.

وقوله: {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:٣٢] الإشارة إلى من لا يجب داعي الله سبحانه وتعالى.