[زيادة تفسير لقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)]
قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:١٩٠]، هذا تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، يعني: كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم.
((وَلا تَعْتَدُوا)) يعني بابتداء القتال، أو (لا تعتدوا) بتعدي حدود الله، وتجاوز الآداب الشرعية في القتال، كقتل النساء أو الصبية أو الرهبان المتعبدين من أصحاب الصوامع، والذين بينكم وبينهم عهد، أو التمثيل بالجثث أو المفاجئة بالقتال من غير دعوة، فكل هذا داخل في العدوان.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: المتجاوزين حكمه في هذا.
((وَاقْتُلُوهُمْ)) يعني: هؤلاء الذي يقاتلونكم اقتلوهم، {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان أشد عليه من القتل، ففتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالتعذيب والإخراج من الوطن أشد قبحاً من القتل فيه، إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه في اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره.
فالجملة دفع لما قد يقع من استعظام قتلهم في الحرم، وإعلام بأن القصاص منهم بالقتل دون جرمهم بفتنة المؤمنين؛ لأن الفتنة أشد من القتل.
وقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}؛ لأن حرمته لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، وهذا بمثابة الاستثناء من قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يعني اقتلوهم حيث ثقفتموهم إلا في المسجد الحرام فلا تبدءوهم بقتال في الحرم، إلا إذا قاتلوكم فيه، فهذا استثناء من عموم قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، يعني: اقتلوهم في أي مكان من الأرض وجدتموهم فيه إلا في المسجد الحرام، فلا تبدءوا بقتالهم حتى يبدءوا هم بقاتلكم فيه؛ مراعاة لحرمة الحرم.
((فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ)) يعني: في الحرم، فلا تفكروا في الفرار من الحرم، ولكن اثبتوا في الحرم، وقاتلوهم فيه؛ إذ لا حرمة لهم حينئذ عند المسجد الحرام.
{كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، لا يجعل لهم حرمة كما لم يراعوا حرمة الله في آياته، فدلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم إذا بدءوا بالقتال فيه؛ دفعاً لصولتهم، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألب عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم وقال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:٢٤]، وقال صلى الله عليه وسلم لـ خالد ومن معه يوم الفتح: (إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا)، فما عرض لهم أحد إلا أناموه، وأصيب من المشركين اثنا عشر رجلاً كما في السيرة، والله سبحانه وتعالى أحل لنبيه مكة ساعة من النهار كما جاء في الحديث: (وإن الله قد أحلها لي ساعة من النهار، وإن حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس) أي: أباح الله له مكة ساعة من النهار عند فتحها، وبعد ذلك عادة حرمتها، وحتى أنه يحرم حمل السلاح بمكة بعد ذلك إلى الأبد.
((فَإِنِ انتَهَوْا)) أي: عن القتال، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، قال القاسمي: فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم تخلقاً بصفتي الحق تبارك وتعالى: المغفرة والرحمة، وقال بعضهم: (فإن انتهوا) أي: عن الشرك والقتال، (فإن الله غفور) لما سلف من طغيانهم، (رحيم) بقبول توبتهم وإيمانهم.
((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) أي: حتى لا توجد في الحرم فتنة، ((وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله).
((فَإِنِ انتَهَوْا)) يعني: عن قتالكم في الحرم ((فَلا عُدْوَانَ)) أي: لا سبيل لكم بالقتل ((إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)) الذين يبتدئون بالقتال.
قيل لـ ابن عمر: أنت صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج معنا في هذا القتال؟ -أي: القتال في الفتنة- فقال: يمنعني أن الله حرم ذلك، قالوا: فإن الله قال: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))! فقال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله، رواه البخاري، ثم ساق رواية أخرى فيها: قال ابن عمر رضي الله عنهما: (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً وكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة).