للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)]

قال تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١].

أي: نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:١٨٠]، فالاسم صلة، وسر إيراده أن المنوه به إذا كان في غاية العظمة فكثيراً ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه، فيقال: سبح اسمه، ومجد ذكره، كما يقال: سلام على المجلس العالي، هذا هو القول الأول في تفسير هذه الآية الكريمة، وهو أن قوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)) أي: سبح ربك الأعلى، ويؤيده أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى، ولم يكونوا يقولون: سبحان اسم ربنا الأعلى.

وأيضاً: فإن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى؛ فقوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) فيه تنبيه على أن علينا أن نعرف الله سبحانه وتعالى عن طريق أسمائه الحسنى.

ومما يؤيده ما ذكر من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى) رواه ابن جرير وغيره.

وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه عن أن يسمى به شيء سواه؛ لأن المشركين كانوا يسمون آلهتهم بأسماء يزعمون أنها مشتقة من أسماء الله عز وجل، كاللات زعموا أنها مؤنث من الله، وأخذوا العزى من العزيز.

فالمقصود بقوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) أي: نزه اسم ربك وقدسه عن أن يسمى به شيء سواه تبارك وتعالى، كما كان يفعل المشركون في تسميتهم لآلهتهم ببعضها كاللات والعزى، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في الفصل حيث رد على من استدل بهذه الآية في مسألة هل الاسم عين المسمى أم غيره؟ وهذه من المسائل المحدثة المبتدعة، وقد كره العلماء الانشغال بها، فالإمام ابن حزم رد على من استدل بهذه الآية على أن الاسم عين المسمى؛ لأن المعنى: سبح ربك، فالاسم هو نفس المسمى، ومن الممتنع أن يأمر الله عز وجل أن يسبح غيره، فلو كان الاسم غير المسمى لما أمر الله بتسبيح اسمه عز وجل.

قال ابن حزم: وأما قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١] فهو على ظاهره دون تأويل؛ لأن التسبيح في اللغة التي نزل بها القرآن وخاطبنا بها الله عز وجل هو تنزيه الشيء عن السوء، وبلاشك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه -الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء- عن كل سوء.

فينبغي تعظيم اسم الله عز وجل عن كل سوء، سواء كان في النطق به أو في كتابته.

فأي ورقة كتب فيها اسم الله فينبغي صيانتها عن الامتهان وهكذا.

ووجه آخر: وهو أن معنى قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٩٥ - ٩٦] معنى واحد، وهو أن يسبح الله تعالى باسمه، ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا باسمه، فكلا الوجهين صحيح، وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص، ولا فرق بين قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وبين قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:٤٨ - ٤٩]، والحمد بلاشك هو غير الله عز وجل، وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه ولا فرق، فبطل تعلقهم بهذه الآية.

وفي الحقيقة هناك تعليق على قول ابن حزم الأخير هذا: من أنه لا فرق بين قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:٤٨]؛ لأن قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} يعني ملابسة الحمد للتسبيح، فتقول: سبحان الله وبحمده، فتقرن التسبيح بالحمد معاً، يعني: أنا أسبح الله وأحمده، فهذه تفيد الملابسة بخلاف الباء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وهذا الذي أشار إليه القاسمي بقوله: وقد يقال: فرق بين الآيتين، فإن الباء في قوله: ((بحمد ربك)) للملابسة، ولا كذلك هي في قوله: ((باسم ربك)).

ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها، فالأظهر هو القول الأول: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) يعني: نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما؛ وذلك لما أيده من الأخبار، وبقوله تعالى: {فَسَبِّحْهُ} [ق:٤٠]، وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} [الصافات:١٨٠]، والله تعالى أعلم.

قوله: ((الأعلى)) أي: الأرفع من كل شيء قدرة وملكاً وسلطاناً، واستدل السلف بظاهره في إثبات العلو بلا تكييف، والمسألة معروفة في إثبات العلو لله تبارك وتعالى على كل مخلوقاته عز وجل.