[الآية ودلالتها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من تركهما مع القدرة فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:١٠٥] إذ يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات، يعني: الزموا أنفسكم بكل ما وجب عليكم كما قال المهايمي في تفسيره: (عليكم أنفسكم) أي: الزموا أن تصلحوها باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوة الإخوان إلى ذلك.
كما قال تعالى عن المؤمنين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] بإقامة الحجج ودفع الشبه، فالله سبحانه وتعالى حكم بأن كل إنسان في خسر فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:١ - ٢] فكل بني آدم في خسر إلا من جمع هذه الأربع: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣].
فإذا آمن وعمل الصالحات ولم يتواص مع إخوانه بالحق فهو من الخاسرين، وإذا آمن وعمل الصالحات وتواصى معهم بالحق لكنه لم يتواص بالصبر فذلك نوع من الخسران.
إذاً: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بدعوتهم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، وإقامة الحجج عليهم ودفع الشبه عنهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بما أمكن من القول والفعل، ولا تقصروا في ذلك {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:١٠٥] من التقصير أو الإيفاء قولاً وفعلاً في حق أنفسكم أو غيركم.
انتهى كلامه.
ونقل الرازي عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله يعتبر هذه الآية أوكد آية في إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه قال: (عليكم أنفسكم) يعني: عليكم أهل دينكم.
فانظر كيف فسرها ابن المبارك! لأننا نلاحظ كثيراً في القرآن أنه استعملت عبارة النفس أو الأنفس وأطلقت على الإخوة الموافقين في الدين، كقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:١٢] أي: بإخوانهم، وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:١١] والمقصود: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:٦١] ومعناها على إحدى التفسيرين: إخوانكم.
وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة:١٨٨] يعني: أموال أنفسكم، والمقصود أموال المسلمين.
وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:٥٤] والمقصود: اقتلوا إخوانكم.
أي: يقتل بعضكم بعضاً.
وكانت هذه توبة لليهود، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن.
فالشاهد من هذا كله أن قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) يعني: عليكم أهل دينكم.
كقوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) أي: أهل دينكم.
(لا يضركم من ضل) يعني: من الكفار إذا اهتديتم أنتم.
فقوله: (عليكم أنفسكم) يعني: بأن يعظ بعضكم بعضاً في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات.
والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله: (عليكم أنفسكم) معناه: احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب.
فكان ذلك أمراً بأن نحفظ أنفسنا، فإذا لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجباً.