للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله)]

قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:٤] أي: خالفوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما نُهوا عنه من الفساد ونقض الميثاق.

قوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:٤] أي: شديد العقاب له في الدنيا وفي الآخرة.

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:٤]، المشاقة: العصيان، ومنه شَقُّ العصا، بمعنى المخالفة، وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم، وتخريب بيوتهم بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، فالمشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك التخريب.

ويقول أيضاً: وهكذا اليهود، فإن داءهم الدفين هو الحسد والعجب بالنفس، فجرّهم إلى الكفر، ووقعوا في الخيانة، وكانت النتيجة القتل والطرد.

فمشاقة اليهود هذه هي من الإفساد في الأرض الذي نهاهم الله عنه، وعاقبهم عليه مرتين، وتهددهم إن هم عادوا للسالفة عاد للانتقام منهم، {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨]، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا} [الإسراء:٤ - ٧] أي: الثانية من المرتين، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:٧] * {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: ٨] أي: إن عدتم للإفساد في الأرض عدنا لتسليط عباد لنا أولي بأس شديد عليكم، فينتقمون منكم، وهاهم قد عادوا إلى الخيانات كما حصل منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، وشاقوا الله ورسوله، فسلط الله عليهم رسوله والمؤمنين.

فقوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} لم يبين هل عادوا للإفساد في المرة الثالثة أم لا، لكن هناك آيات أخرى تدل على أنهم عادوا فعلاً للإفساد، فقد عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتْم صفاته، ونقْض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وجرى على بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل، والسلب، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة وغيرها، ومن الآيات التي تدل على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:٨٩ - ٩٠]، فقال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:١٠٠]، وقال تعالى: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:١٣].

ومن الآيات التي تدل على أن الله سبحانه وتعالى عاد إلى الانتقام منهم لما عادوا إلى الإفساد بمحاولة اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، ونقض العهود، وموالاة المشركين، والاتفاق السري مع المنافقين في المدينة، هذه الآيات التي في سورة الحشر: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)) إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:٧]، وقال تعالى أيضاً يبين أنه عاد إليهم بالانتقام لما عادوا إلى الإفساد: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:٨]، وقال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب:٢٦ - ٢٧]، إلى آخر الآية.

فالمشاقة التي وقعت من اليهود تخالف المشاقة التي وقعت من غيرهم، فكان تخلف الحكم عمن شاقوا الله ورسوله من غير اليهود بسبب تخلف بعض العلة في الحكمين، فليس كل من شاق الله ورسوله يخاطب بهذا التقريع، لكن المقصود هنا أن اليهود صدرت منهم مشاقة تقتضي هذه العقوبات.