قوله تبارك وتعالى هنا:(سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) سبق أن أشرنا أن سنة الله تبارك وتعالى في الآيات العظام وفي الأمور الجسيمة أن يسبقها بإرهاصات تمهد القلوب لتقبل هذا الأمر الجديد، فهناك أمور عجيبة تحصل قبل وقوع الآية العظمى التي ستأتي، من ذلك مثلاً: إذا راجعنا سورة آل عمران تجد أن الله سبحانه وتعالى قدم بين يدي مولد المسيح عليه السلام من غير أب قصة امرأة عمران وزكريا، وكيف أنها رأت كرامات الله التي كان يكرم بها مريم عليها السلام، {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[آل عمران:٣٧]، ثم يقول تعالى:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}[آل عمران:٣٨] وهذا تمهيد لحدوث الآية العظمى فيما بعد، فلما رأى هذه الكرامة، وأن الله قادر على أن يرزق من يشاء بغير حساب (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) فطمع في رحمة الله، فدعا الله سبحانه وتعالى أن يهب له الولد فوهبه الله الولد مع أنه كان قد طعن في السن، فرزقه الله سبحانه وتعالى يحيى عليه السلام، فهذه إرهاصات ومقدمات تمهد القلوب لما هو أعظم مما سيأتي، وهو ميلاد المسيح عليه السلام، وهو من آيات الله سبحانه وتعالى.
كذلك نلاحظ أن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام حدث غير مجرى تاريخ البشرية كلها، فتجد إرهاصات كثيرة بين يدي بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك: حادثة الفيل فقد ولد في نفس السنة، إشارة إلى أن هذا البيت وهذه البلدة وهذه الكعبة يراد بها أمر عظيم، ولذلك حماها الله سبحانه وتعالى من جيش أبرهة لما أراد هذا البيت وأهله بسوء، فحصلت حادثة الفيل، وهي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ كي تمهد أيضاً القلوب لحدوث مثل هذه المعجزة العظمى، وهذا الأمر المهم، وهو بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الجن وجدوا أن السماء حرست بالشهب والنيازك، وأنهم لن يستطيعوا أن يسترقوا السمع كما كان يحصل من قبل؛ وهذا أيضاً تمهيد بين يدي بعثته صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك الإرهاصات: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأت أمي كأن نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام).
ومن هذه الإرهاصات: هواتف الجن كما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الجن كانوا ينطقون ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الممهدات، فكلها أمور تمهد لحصول أمر أخطر منها وأعظم.
وكذلك هنا أيضاً لو أننا تتبعنا الآيات السابقة في الأرباع الماضية، نجد إرهاصات وتقدمة وتوطئة وتمهيد لهذا الحدث الخطير، وهو حدث تحويل القبلة، وقد بدأت الآيات بالتنويه بدين الإسلام، ونسبة ذلك إلى ملة إبراهيم عليه السلام، وأنه كان مسلماً موحداً، وأن أبا الأنبياء الخليل عليه السلام كان على ملة الإسلام، وكذب من قال: إنه كان يهودياً أو كان نصرانياً.
ثم أتت قصة بناء الكعبة المشرفة، وفضل هذه الكعبة، ودعاء إبراهيم وإسماعيل ببعثة النبي عليه السلام بعد ذلك، ثم أتت الآيات تتحدث عن النسخ في آيات الله:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}[البقرة:١٠٦]، وكل هذا تمهيد للقلوب؛ حتى إذا ما حصل نسخ للقبلة تكون القلوب قد تقبلت هذا الحدث، ولم يبق حجة لأعداء الدين أن يطعنوا وينفذوا من خلال هذه الثغرة، فهذا نوع من الإرهاصات نحو الحدث، وهو الذي ينبه الله أيضاً قبل وقوعه بقوله:(سيقول السفهاء)، فقبل أن يقولوا ينبهنا ويقول:(سيقول السفهاء) ويصفهم بالسفه، وقد كان ذلك بالفعل وقالوا كما أخبر الله تبارك وتعالى، فهذا خبر حصل قبل وقوع الحدث، وفائدته: توطين النفس واستعدادها على ما بعد الحدث.