يقول تعالى:((رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) أي: رسلاً يبشرون من آمن وأطاع بالجنة، وينذرون من خالف وعصى وكفر بالنار.
((لئلا يكون)) يعني: لكيلا يكون.
((للناس على الله حجة)) يعني: يوم القيامة لا يكون لهم عذر يعتذرون به قائلين: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا}[القصص:٤٧]؛ لأن الله لو لم يرسل الرسل لكان للناس عذر يوم القيامة ويقولون: ربنا أنت لم ترسل إلينا رسولاً، وما أنزلت علينا كتاباً، وما عرفنا ما الذي يرضيك وما الذي يغضبك، لو كنت أرسلت إلينا رسلاً، وبينت لنا شرائعك، وأمرتنا ونهيتنا، وعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك؛ لأن قدرتنا البشرية قاصرة عن إدراك جزئيات المصالح، كما في قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ}[طه:١٣٤]، من قبل أن ينزل القرآن:{لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}[طه:١٣٤]، فلذلك الله سبحانه وتعالى قال: قد أرسلت إليكم رسولاً وأنزلت عليه الكتاب، وبلغكم الحق، فقد قامت عليكم الحجة، ولم يبق عذر لمعتذر، وإنما سميت حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه وتعالى في فعل من أفعاله اعتراض؛ لأنه يفعل ما يشاء كما يشاء، ثم إن هناك حجة للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها؛ ولذلك قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:١٥]، فالله سبحانه وتعالى تكفل أنه لا يعذب أحداً، لا أمماً ولا أفراداً حتى تبلغه حجة الرسل والأنبياء.
وعن عبد الله بن مسعود كما في مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس شيء أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل) والحديث أخرجه أيضاً البخاري.
قوله تعالى:((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب، تكون قد قامت الحجة على العباد:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:٢٩].
وفي الآية دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل مبعث الرسل، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:١٥]، رغم أن الله سبحانه وتعالى فطر العباد على التوحيد، وأعطاهم العهود وبث لهم الآيات في الكون وفي أنفسهم، وأخذ عليهم الميثاق، ومع ذلك تكفل رحمة منه بالعباد أنه لا يعذب أحداً رغم كل هذا حتى تبلغه الحجة الرسالية، فإذا بلغه وسمع عن الحق وعن دين الحق، صار مسئولاً عنه أمام الله سبحانه وتعالى، ولا يعذر الكافر بجهله؛ لأن آيات الحق وأدلة الحق واضحة بينة، وما عليه إلا أن يعمل عقله في البحث عنها.
((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) أي: في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله، ((حَكِيمًا)) في بعث الرسل للبشارة والنذارة.