[تفسير قوله تعالى: (والآخرة خير وأبقى)]
قال تبارك وتعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٧].
يقولون: شربت من النهر، والأصل شربت من ماء النهر، لكن شاع استعمالها بدون ذكر المضاف، وهكذا قوله تعالى: ((والآخرة)) أي: الدار الآخرة، فنقدر كلمة الدار، فيكون المعنى: والدار الآخرة خير، كذلك الآخرة هي صفة للدار الآخرة.
قوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ} أي: أفضل لخلوصها عما يكدر.
قوله: ((وأبقى)) أي: أدوم لعدم انقضاء نعيمها.
يعني: نعيم الجنة لا ينقطع بل هو دائم.
إن على المؤمنين والمسلمين ألا ينخدعوا بما يزينه لهم شياطين الإنس والجن من حولهم باسم الإسلام أحياناً، مثل قولهم: إننا نريد المجتمع المتحضر والحضارة والمباني والعمائر وناطحات السحاب والبساتين والخضرة، كما يحصل في البرازيل وغيرها.
نقول: الاهتمام بمثل هذه الأشياء من العبث، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في القرآن، قال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:١٢٨] هذا هو العبث، وإذا لم يكن هناك إلا تضييع الأموال وتبذيرها؛ بسبب المنظر حتى يكون جميلاً والخضرة وكذا وكذا لكان ذلك كافياً للترك.
أيضاً الدنيا ليست وطنك، ومشكلة المسلمين حب الدنيا وكراهية الموت، فالإنسان إذا عمرها وزينها فإنه بالتالي يحب البقاء فيها.
أيضاً الدنيا والآخرة ضرتان إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فلا يمكن أن يجتمعا، إما الدنيا وإما الآخرة، فلذلك القرآن دائماً ينبهنا لهذا المعنى، وهو الالتفات إلى الآخرة وتعمير الآخرة وعدم الانخداع بزخرف الدنيا؛ لأن الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
قوله: (الدنيا حلوة خضرة) يعني: تخدع وتسحر ألباب الناس، فينبغي الحذر منها، والصبر على المشقة في الدنيا، وعلى البلاء في الدنيا، وألا ننجرف مع من ينجرفون وراءها؛ لأن الدنيا لا قيمة لها عند الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:٢٤]، كنت دائماً أقرأ هذه الآية وأنا أنظر في الأفق إلى ناطحات السحاب في مدينة نيويورك، وهم في غاية الفخر بالإعمار وناطحات السحاب وهذه الأشياء الضخمة؛ فتيقنت زوال تلك العمارات الضخمة، مصداقاً لهذه الآية.
وقد قيل: حب الدنيا رأس كل خطيئة، وإذا فكرت في هذا القول ستجد فعلاً أن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، فما يقع إنسان في معصية إلا من أجل الدنيا، الذي يسرق يسرق لأجل الدنيا، والذي يرتكب الفواحش يرتكبها لأجل شهوات الدنيا، الذي يرتشي، الذي يفعل كذا أو كذا هذا كله راجع إلى حب الدنيا.
إذاً: مرضنا وداؤنا حب الدنيا وكراهية الموت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للمسلم العاقل أن ينخدع بما ينخدع به الآخرون؛ لأن الإنسان الذي يعظم الدنيا إنما يعمر الدنيا ويخدمها، وفي الأثر: (يا دنيا اخدمي من خدمك) أي: أسعدي من خدمك، والإنسان يكد ويكدح في الدنيا ولا يأتيه إلا ما قدر له، والسعي الحثيث وراء الدنيا لن يغير شيئاً مما كتب الله سبحانه وتعالى؛ لأن الرزق لا يجلبه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره، فيعطى الإنسان رزقه رغم أنفه كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من الرزق كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله).
إذاً: على الإنسان ألا يجزع؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) يعني: هونوا عليكم طلب الدنيا، وقال عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥] امشوا مشياً، لكن في الآخرة قال سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:٩]، وقال عز وجل: {وَسَارِعُوا} [آل عمران:١٣٣]، وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:٥٠]، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:٩٠]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:٢٦].
فالإنسان المسلم في الدنيا يهون على نفسه، ولا يكون مثل هؤلاء الكفار الدواب الذين لا هم لهم إلا الدنيا، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة في الليل، حمار بالنهار).
قوله: (جيفة في الليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى، وهناك شعوب ينطبق عليها هذا الوصف أشد الانطباق، وهم اليابانيون، لقد قاموا بمظاهرات احتجاجاً على الحكومة؛ لأنها عملت إجازة في يوم معين! فهم من شدة حرصهم على الدنيا استنكروا على الحكومة أنها جعلت ذلك اليوم إجازة! قال لي أحد الإخوة من رجال الأعمال: كان هناك رجل من اليابان يعمل في القاهرة، وجاء إلى الإسكندرية لسبب معين، ثم يعود إلى القاهرة، فكان مجيئه يوم الخميس بالليل، ويوم الجمعة إجازة، فمن حرصه على العمل جعل السائق يرجعه إلى القاهرة في نفس الليلة؛ حتى يواصل الشغل؛ لأنه لا يطيق البعد عن العمل! قوله: (حمار بالنهار) يعني: يعمل كالحمار بالنهار من المشقة التي يبذلها في السعي وراء الدنيا.
إذاً: العاقل الذي يسمع عن الجنة فيحرص على طلبها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها! ولا مثل النار نام هاربها!) فالجنة تستحق التعب والنصب والتضحية والفداء والبذل، قال عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
ويقول الشاعر: أيها النائم دعني لست أصغي للملام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام قوله: ((والآخرة خير وأبقى)) الجملة مبتدأ وخبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب حال من فاعل ((تؤثرون)) مؤكدة للتوبيخ والعتاب.
وقال الله تبارك وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:٤] يعني: الدار الآخرة خير من الدار الأولى التي هي أقرب إلينا.
قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:١٦ - ١٧] هي أفضل وخير ومع ذلك هي دائمة وأهلها مخلدون فيها لا يموتون.
والذي يؤثر الحياة الدنيا يؤثرها للمتاع الذي فيها، والنعيم الذي خلق في الدنيا ما خلق إلا لينبه على نعيم الآخرة، كما أن الآلام التي في الدنيا تنبه على آلام الآخرة، والدليل على ذلك قوله تعالى في النار: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:٧٣] أي: جعلنا نار الدنيا تذكرة بحيث إذا رأيتموها تذكرتم نار الآخرة فتعوذتم بالله منها.
ونعيم الدنيا لا يمكن أن يكون بغير تنغيص، لابد أن يشوبه تنغيص بصورة أو بأخرى، إما التنغيص الذي يلقاه في سبيل الحصول عليه، أو تنغيص عند تناول الأطعمة والأشربة؛ لأنه ليس المقصود منها أن تتمتع بالدنيا، بل المقصود أن تنبهك إلى نعيم الجنة الذي لا ينقطع، فمتاع الدنيا يقطع ويشوبه الأكدار والآلام والمنغصات وما أكثرها! فلذلك العاقل يؤثر الآخرة على الدنيا ولا يؤثر الدنيا على الآخرة، وإلا يكون قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فخلاصة الكلام لا ينبغي لمن يؤمن بالآخرة ويعلم أنها خير وأبقى أن ينساق مع من ينساق في تعظيم الدنيا، ومع من يجعلون الإسلام دين حضارة من عمران ومباني وغيره فقط وينسون أن القضية الكبرى للإسلام هي قضية تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى.
وأذكر في هذا السياق مدرساً في بعض البلاد الإسلامية، أتى وفد أجنبي ليزور تلك البلاد، وشاء الله أن يدخل هذا الوفد هذه المدرسة التي فيها هذا المدرس، فطاف هذا الوفد في المدرسة، فدخل فصلاً فيه حصة لهذا الأخ الفاضل، فهذا الأخ أخذ يشرح الإسلام وكيفية الصلاة إلى آخره، فسأله بعض الناس لماذا تفعل هذا؟ قال: لأننا عندنا العمارات والمباني والحدائق إلى غيره من مظاهر الدنيا الخداعة، وكل كلامه كان على أن الإسلام دين الحضارة، تاركاً الحديث عن الآثار والأحجار التي تصرف للنظر عن جوهر القضية، فقضيتنا أعظم بكثير من ذلك، وهي قضية تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى في الأرض، فلا ننساق مع الذين يدعون في أن الإسلام جاء لتزيين الدنيا! الشاهد أن هذا الأخ قال لمن أنكر عليه هذا الأمر: إن هؤلاء لن تطلعوهم على شيء إلا وعندهم ما هو أفضل منه في بلادهم من المباني والمصانع، فمهما رأوا سوف يلاقونها هناك عندهم، {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:٦٥]، لكن نقدم لهم ما يفتقرون إليه وهو الإسلام وشريعة الإسلام ومكارم الإسلام والنبوة والرحمة وكذا، هذا هو الذي يحتاجون إليه.
وبالنسبة للرياضة النافعة التي تعود عليك ببناء جسمك، هي الرياضة المطلوبة في الإسلام، التي فيها الصحة والقوة، أما أنك تجلس تتفرج وتقعد تشجع فريقاً على فريق، وتتابع البطولات، فنقول: أين البطولة في فلسطين؟! هل البطولة في إجازة؟! إذاً: لا يليق بنا أن ننشغل بما ينشغل به الآخرون، نحن كما قال ربعي بن عامر لما سأله رستم: ما جاء بكم؟ قال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
إذاً: لا تنسوا في زحمة الحياة الدنيا وزحمة الضغوط التي شغلتنا في كل وقت وفي كل أوان ومن كل جهة أن تتذكروا هـ