[النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الضحى]
من هذا قول الله سبحانه وتعالى مشيراً إلى تمام النعمة على نبيه عليه الصلاة والسلام ودوامها واتصالها، وأنه لا يسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:٤]، نعمة الله عليه في الآخرة أفضل وأعظم وخير من نعمته عليه في الدنيا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:٥ - ٦] يعني: منذ ولادته ونشأته تعهده الله سبحانه وتعالى من صغره فصانه صلى الله عليه وسلم عن دنس الشرك، وطهره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها: فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه.
أما قوله تبارك وتعالى: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) قال بعض العلماء: يعطيه في الدنيا من إتمام الدين، وإعلاء كلمة الله، والنصر على الأعداء، والجمهور على أنه في الآخرة: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ)) يعني: في الآخرة، وفصلته مواضع أخر منها هذا العطاء وهذه النعمة التي سوف يعطيه الله إياها في الآخرة، وهو الذي وعده الله بقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩]، وجاءت السنة ببيان أن هذا المقام المحمود -وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون- هو الشفاعة العظمى حين يتخلى ويعتزل كل نبي، ويقول كل نبي: نفسي نفسي! حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها! أنا لها!)، وقد قال صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).
ومن النعم التي سوف يعطيه الله إياها الحوض المورود، وما خصت به أمته من مجيئهم غراً محجلين يردون عليه الحوض.
ومنها الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، كما جاء في الحديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو).
ومنها الشفاعة في دخول الجنة، كما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أول من تفتح له الجنة، كما جاء في الحديث: (آتي باب الجنة فأستفتح؛ فيقال لي: من؟ فأقول: محمد، فيقول خازن الجنة: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الحديث الذي فيه: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر ما دعا إبراهيم لقومه حين قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:٣٦]، وقال المسيح عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:١١٨]، ثم بكى النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: تذكر إحسان هؤلاء الأنبياء إلى قومهم، فبكى متأثراً، كأنه يقول لله عز وجل: فماذا لي؟ وماذا لأمتي؟ (فبكى ثم قال الله سبحانه وتعالى: ما يبكيك يا محمد؟ -عن طريق جبريل عليه السلام- فقال: يا رب! أمتي أمتي! أمتي أمتي! فأمر الله سبحانه وتعالى جبريل أن يقول له: يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، فربط بعض المفسرين بين هذا الحديث الصحيح وبين قوله هنا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥]، فقال: أي: سنظل نعطيك ونحسن إلى أمتك إلى أن ترضى، ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) ولذلك بالغ بعض الناس في تأويل هذه الآية حتى خرجوا عن حد الاعتدال فقال شاعر منهم: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن في جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وكيف ترضى وفينا معذب لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضي ربه، ومما يرضي ربه عز وجل ظهور آثار صفات رحمته وصفات عدله أيضاً، فكما أن الله يحب أن يغفر الذنوب للعاصين، كذلك من صفات الجلال والكمال والجبروت أن يعذب من تمرد وعصاه فقول الشاعر هنا: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن في جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وكيف ترضى وفينا معذب وقول الآخر: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء فهذا الكلام فيه نظر؛ لأن الأمر لو كان بمجرد التعطف لما ذبح عصفور، ولا تألم طفل، وإنما هي سنن الله الماضية التي تظهر وتجلي آثار صفاته وأسمائه جل وعز.
من هذه النعم شهادته على الرسل وشهادة أمته على الأمم، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يشهد على الرسل أنهم قد أبلغوا رسالة ربهم، كذلك أمته تشهد على الأمم كما قال الله: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:٧٨]، أما هو صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى من يشهد له، وأما قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:٧] فقيل: غافلاً عما تعلمه الآن من الشرائع يعني: قبل نزول الوحي عليك، وفيه أسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما بالتلقين عن طريق الوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك، فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب عن العلم، ويدل لهذا قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:٥٢]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:١١٣]، وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ} [يوسف:٣] أي: من قبل القرآن: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:٣]، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:٨٦].
وقيل: ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)) وجد رهطك ضالين فهداهم بك، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:٨٢] يعني: واسأل أهل القرية.
وقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٨] أي: فقيراً فأغناك بمال عمك، ثم ببذل خديجة رضي الله تعالى عنها، ثم بمواساة الأنصار رضي الله عنهم، ثم جاءت غنائم حنين فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في أصوع من شعير.
وكان غناه قبل كل شيء هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأغناه الله سبحانه وتعالى بما لا غنى بعده، أغناه أعظم غنى على الإطلاق كما أشار بذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:٨٧] الفاتحة، {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:٨٧]، وهذه إشارة إلى أنه قد أغناه أعظم وأشرف وأكبر غنى في الوجود، وذلك بالقرآن الكريم، هذا هو الغنى العالي الذي لا يصل إلى رتبته غنى، ثم قال: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:٨٨]، إشارة إلى الاستغناء بالقرآن عن النظر إلى ما متع الآخرون من متاع الدنيا؛ لأن القرآن يغني صاحبه، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)، وهذه الحديث له تفسيرات عدة، والذي يناسب المقام هنا أنه من لم يستغن بالقرآن عن النظر إلى الدنيا، والسعي الحثيث وراء الدنيا؛ فليس منا، هذا معنى: (من لم يتغن بالقرآن)، وشاهد ذلك من الشعر قول الشاعر: كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا يعني: استغناء.
وقال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:١١] قيل: المراد بها المذكورات، والتحدث بها شكرها عملياً من إيواء اليتيم كما آواه الله قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:٩]، فهذا هو الشكر العملي لهذه النعم، فكما أنعم الله عليك تنعم أنت على غيرك تأسياً بفعل الله معك، وقيل: التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية أو حديث، والنعمة هنا عامة لتنكيرها وإضافتها كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:٥٣]، وأعظم النعم وأولاها وأظهرها نعمة الوحي، ولذلك سورة النحل تسمى سورة النعم، وقد ابتدأت بأعظم نعمة وهي نعمة الوحي، كما قال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣]، وقال في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:٢]، وقال: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣] ففي هذه الآية قال: (نعمتي)، وفي هذه الآية في سورة الضحى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الضحى:١١]، ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة ناقة في حجة الوداع لما أنزل الله عليه هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:٣] فنحر في حجة الوداع لما نزلت هذه الآية مائة ناقة شكراً لله على إتمام النعمة وإكمال الدين.