[تفسير قوله تعالى: ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم]
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:٦].
قوله: ((ذلك)) تعليل، أي ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا وما أعد لهم من عذاب الأخرى؛ بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة على حقيقة ما يدعونهم إليه فنبذوها واتبعوا أهواءهم، واستهزءوا برسلهم وقالوا: ((أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)).
قال ابن جرير: قالوا ذلك استكباراً منهم أن تكون رسل الله إليهم بشراً مثلهم، واستكباراً عن اتباع الحق من أجل أن بشراً مثلهم دعاهم إليه! وهذه الشبهة طالما احتج بها الكفار، وقد اقترحوا نزول الملائكة حيث زعموا أن البشرية تتعارض مع الرسالة، وقالوا: كيف يكون بشراً رسولاً وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق مثلنا؟! لكن الله سبحانه وتعالى قال لهم: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:٨] يعني: أن الملك لا ينزل إلا بالعذاب والاستئصال، وقال لهم: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:٩] يعني: الملك إما أن يأتيهم في صورة غير صورتهم، فهم لن يطيقوا رؤية صورته، أو يأتي في صورة بشر فيلتبس عليهم الأمر من جديد، أو يأتيهم الملك في صورته الحقيقة ولن يكون ذلك إلا إذا نزل للعذاب.
وقال تعالى هنا: ((فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)) بالجمع ولم يقل: أبشر يهدينا؛ لأن البشر وإن كان يطلق على واحد فإنه بمعنى الجمع، ولذلك قال: ((يَهْدُونَنَا)).
قوله: ((فَكَفَرُوا)) أي: بالحق والدين والرسول، أي: كفروا بهذا القول إذ قالوه استكباراً، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده، وقيل: كفروا بالرسول وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
قوله: ((وتولوا)) أي: عن التدبر في الآيات البينات.
قوله: ((وَاسْتَغْنَى اللَّهُ)) أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى لما فعل ذلك، إذاً: الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، وهو في كل حال مستغن عن عباده.
وقيل في قوله: ((وَاسْتَغْنَى اللَّهُ)): أي: استغنى الله مما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية.
وقيل: يجوز أن يكون حالاً بتقدير (قد) أي: وقد استغنى الله بكماله وذاته عرفوا أو لم يعرفوا.
قوله: ((وَاللَّهُ غَنِيٌّ)) أي: بذاته عن العالمين، فإذا كان غنياً عن العالمين فهو غني بالأولى عن إيمانهم؛ لأنه لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم، ولا على معرفتهم له.
قوله: ((حَمِيدٌ)) أي: يحمده كل مخلوق، أو هو حميد مستحق للحمد بنفسه وإن لم يحمده حامد؛ لأن واقع كل مخلوق أنه يحمد الله سبحانه وتعالى ويثني عليه بما هو أهله.