أيضاً ممن ينبغي أن نلتفت إليه مراعاة لهذا الأمر وهو أن الشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى ذاته، ولا إلى صفاته، ولا إلى أفعاله، فليس في فعل الله شر، ولا في ذاته، ولا في صفاته مطلقاً.
فنسبة الفعل إلى الله خير محض، ولا يمكن أن يكون فيه شر، وأما من حيث إضافته إلى المخلوق فقد يكون شراً بالنسبة إليه، كقطع يد السارق، لذلك نجد أن هذه القاعدة كشفت لنا كثيراً من المعاني في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم له أسلوب خاص في إضافة الشر، فإما أن يضاف الشر إلى سببه ومن قام به، وإما أن يضاف مع حذف فاعله.
فمثال إضافة الشر إلى سببه ومن قام به قوله تبارك وتعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:٢٥٤] فتجد أن الظلم نسب إلى الكافر نفسه، فإنه ظلم نفسه، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[المنافقون:٦]، فلفظة (فاسقين) صيغة فاعل، فهم الذين يفعلون الفسق، كذلك قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ}[النساء:١٦٠] إلى آخره، فهنا أضاف الشر إلى اليهود، فنسب الشر إلى فاعله من المخلوقين، وكقوله تعالى:{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}[الأنعام:١٤٦] فأضيف الشر إلى الكافرين، وكقوله:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ}[الزخرف:٧٦] فأضاف الظلم إلى هؤلاء القوم.
الطريقة الثانية: أن يضاف الشر مع حذف الفاعل، أي: أن ترد الصيغة وليس فيها الفاعل، كقوله تبارك وتعالى:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن:١٠]، فنسب الخير إلى الله تعالى؛ لأنه خير محض، فقالوا:((أم أراد بهم ربهم رشداً))، وأما في الشر فبنوه للمجهول، وحذفوا فاعله فقالوا:((وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض))؛ لأن الله لا يريد الشر ولا ينسب إليه، وإن كان قد خلقه كوناً وقدراً لحكمة بالغة ليس فيها شر، فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد، ونظيره في الفاتحة:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:٦] * {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم}[الفاتحة:٧] فخاطبوا الله سبحانه وتعالى بسبق النعمة؛ لأنها خير محض، {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:٧]، المغضوب اسم مشتق من غضب عليهم، فهو اسم مفعول مشتق من صيغة الفعل المبني للمجهول، وليس من صيغة الفاعل، أي: غضب الله عليه، فلذلك فقالوا:((غير المغضوب عليهم ولا الضالين))، فنُسب الضلال إليهم، وهذا من النوع الأول، أي: أن الشر ينسب إلى فاعله المرتبط به، وحُذف الفاعل في قوله:((غير المغضوب عليهم))، واستعملوا صيغة المبني للمجهول أو المشتق منه وهو اسم المفعول، فذكرت النعمة مضافة إلى الله:((صراط الذين أنعمت))، وذُكر الغضب مع حذف فاعله، كقول الخضر في السفينة لما صنع فيها العيب:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}[الكهف:٧٩] فنسب الشر إلى نفسه مع أنه كان بأمر الله، وقال في الغلامين:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}[الكهف:٨٢] فلما كان خيراً محضاً نسبه إلى الله تعالى.
ومثله قوله تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ}[الحجرات:٧]، فأضافه إلى الله؛ لأنه خير، {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات:٧]؛ لأنه خير محض، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات:٧]، فنسب هذا الأمر المحبوب إليه، لكن في حب الشهوات قال:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ}[آل عمران:١٤]، فحذف الفاعل منه ولم يصرح به.
وقال تعالى هنا في هذه الآية:((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ))، ومثله قول الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام:{الَّذِي خَلَقَنِي}[الشعراء:٧٨]، فنسب الفعل إلى الله سبحانه وتعالى، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ}[الشعراء:٧٨ - ٨٠]، وهنا حذف الفاعل؛ لأن المرض شر، فنسبه إلى نفسه، فما أعرفه بربه! {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:٧٨ - ٨٢]، فنسب الخطيئة إلى نفسه؛ لأن هذا شر، فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة، ومثله قول الله سبحانه وتعالى:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}[البقرة:١٢١]، وهذه الصيغة غالباً ما تكون في سياق المدح، فالله سبحانه وتعالى هو الذي آتاهم الكتاب، فقوله:((الذين آتيناهم الكتاب)) غالباً ما تكون في سياق مدح مؤمني أهل الكتاب.
وغالباً ما تستعمل صيغة:{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}[البقرة:١٠١] في الذم، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى:١٤] فالسر في هاتين الصيغتين أنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعاً في سياق المدح، وحيث حذفه واقعاً في سياق الذم، وذلك من أسرار القرآن، فمثلاً قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}[فاطر:٣٢] يعني: أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فنسب الإيراث إلى اسم الاستفهام المتعدي؛ لأنه أسلوب مدح، وقال في أهل الكتاب:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}[الشورى:١٤]، فالذي يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كله خير ومصلحة وعدل، والشر ليس إليه، فالحمد لله أولاً وآخراً.