[تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم يوم عسر)]
يقول تبارك وتعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:٦ - ٨].
((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)): هذا وقف التمام، يعني: هذا تمام الكلام المتصل بما مضى، فيقرأ المرء: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:٥] * ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ))، ثم يبتدئ الكلام: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:٦].
أو يكون الكلام متصلاً، ويكون المعنى كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فقوله عز وجل هنا: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: اصفح عن أذاهم، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد.
ثم بين هذا اليوم الذي يلقون فيه الوعيد الشديد بقوله: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، وكما ذكرنا إما أن نقف وقفاً تاماً: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ))، ثم نبتدئ: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، يعني: يخرجون من الأجداث {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ)) [القمر:٦ - ٧] فتكون: (يومَ) منصوبة بقوله تعالى: ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ))، أو تكون منصوبة بفعل تقديره: واذكر يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ.
أما إذا قلنا: إنه لا وقف بعد قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) فيكون المعنى: أعرض عنهم يوم القيامة، ولا تسأل عنهم ولا عن أحوالهم، فإنهم يُدعَون إلى شيء نكر، وينالهم عذاب شديد، كما تقول لمن أخبرته بأمر عظيم وقع وجرى لشخص: لا تسأل عما جرى لفلان، لأنه أمر عظيم فظيع، فهذا نفس المعنى هنا: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)) يعني: أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم ولا عن أحوالهم؛ فإن البلاء الذي يكونون فيه عظيم.
((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ))، أي: داعي الله إلى موقف القيامة.
أو الداعي الذي يأمره الله سبحانه وتعالى أن يدعوهم إلى الحضور في موقف القيامة، وهذا الداعي هو ملَك.
وقيل الداعي هو إسرافيل يدعوهم بالنفخة الثانية.
أو الداعي هو الله سبحانه وتعالى كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:١١٧]، فإذا دعاهم فإنهم يخرجون من الأجداث.
((إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، أي: شيء فظيع تنكره النفوس إعظاماً له، وهو موقف الحساب، وليس معنى تنكره النفوس أنهم يجحدونه ويكذبون به ساعتها، إنما تنكره النفوس من شدة إعظامهم لهذا الموقف، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء.
((خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ)) [القمر:٧]، من الذل والصغار، وهذا حالهم حينما يُدعون إلى موقف القيامة أو حينما يخرجون من الأجداث.
يقال: خشع بصرُه إذا غَض طرْفَه.
ونلاحظ هنا أنه أضاف الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز والذل يتبين في عين الإنسان، وهذا محمل دقيق، وهو أن عامة أحوال الإنسان تظهر في عينيه، فالعين تظهِر ما يخفيه الإنسان من الشعور بالعز أو بالانكسار أو بالذل أو بالفرح والسرور، فالعين آية من آيات الله سبحانه وتعالى تكشف عما في باطن الإنسان، وعن أحواله النفسيه الدفينة أو الكامنة في نفسه، فلهذا كان للنظر إلى العين أثر مهم جداً في انعكاسه على من يحادثه الإنسان وينظر إليه، ولذلك يقولون: إذا أردت أن تعرف صدق الشخص وهو يحدثك بحديث فانظر إلى عينيه، فإنه يظهر على عينيه الاضطراب إذا كان كاذباً فيما يقول.
هذا فيما يتعلق بإضافة الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز والذل يتبين في عين الإنسان، كما قال تبارك وتعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات:٩]، وقال عز وجل أيضاً: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:٤٥].
((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ)) يعني: من قبورهم، جمع جَدَث، ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ)) [القمر:٧] شبههم في الكثرة والتموج والانتشار بالجراد، والجراد مثلٌ في الكثرة، فإذا أردت أن تشبه شيئاً وأن تصفه بالكثرة الكاثرة فإنك تشبهه بالجراد، لأن أسراب الجراد إذا هاجمت الحقول والمزارع فإنها تكون كثيرة جداً.
والسر -والله أعلم- في تشبيههم بالجراد كما قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الجراد لا جهة له يقصدها، فهو أبداً مختلط بعضه في بعض، فهم يخرجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يقصدها.
وبين الإمام القرطبي رحمه الله تعالى هنا معنىً آخر: وهو أنه ربط بين قوله عز وجل: ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ)) [القمر:٧] وبين قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:٨]، أما قوله عز وجل: ((مُهْطِعِينَ)) فمعناه: مسرعين مادِّي أعناقهم إليه، بمعنى: أنهم شُبهوا أولاً بالجراد عند خروجهم من القبور، ليس لأحد منهم جهة يقصدها، ثم بعد ذلك تكون حال أخرى.
إذاً: هما صفتان في وقتين مختلفين: الوقت الأول: عند الخروج من الأجداث.
الوقت الثاني: حينما يدعوهم الداعي إلى موقف الحساب وهو موقف القيامة، فحينئذٍ يحددون جهة الداعي ويسرعون نحوه ((مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)) [القمر:٨].
فقوله تبارك وتعالى هنا: ((خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ))، كقول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:٤].
(يوم عسر) لشدة أهواله.