للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراتب التعبد بأسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن)]

يقول: وللتعبد بهذه الأسماء رتبتان: الأولى: أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء، والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو دون كل شيء.

فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه.

يعني: أي شيء أمامك يحجب عنك ما وراءه، فلا تعرف ما وراء الجدار، ولو وقف شخص أمامك فإنك لا ترى ما خلفه وهكذا، وكذلك السحابة لا ترى ما وراءها من شمس، فهذا شأن المخلوق.

قال: فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه.

المرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كل اسم بمقتضاه.

فالمرتبة الأولى مرتبة علمية، أن تشهد ذلك بقلبك وتعلمه وتوقن به.

والمرتبة الثانية: عملية، أن تعامل كل اسم بمقتضاه.

قال: فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء، وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها، بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره.

فما دام أنك مؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أول وآخر وظاهر وباطن، وما دمت تؤمن بأنه الأول، بمعنى: أنه سبق كل شيء، وكل ما عداه مخلوق؛ فالله هو الذي أوجدك بأوليته، فتعامل ذلك بما يقتضيه من إفراده بأن توحده، وألا تلتفت إلى غيره؛ لأن كل ما عداه من إله باطل، والأسباب كلها إنما هي مخلوقة، فينبغي أن تلتفت بقلبك وتتوكل على الله سبحانه وتعالى، فتفرده ولا تلتفت إلى غيره، ولا تثق بسواه، ولا تتوكل على غيره.

قال: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً، حتى سماك باسم الإسلام؟! فأعظم نعمة في الوجود كله هي نعمة الإسلام، فهل شفع لك أحد المخلوقين حتى الأنبياء والمرسلين في الأزل عند الله عز وجل بأن يجعلك أنت مسلماً ويجعل فلاناً كافراً؟! قال عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:١] فهل سبق شيء منك وأنت لم تكن شيئاً مذكوراً؟! فهذا محض فضل راجع إلى أوليته وإحسانه سبحانه وتعالى إليك في الأزل بدون سبب.

قال: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه، فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القدم، أن يتم عليك نعمة هو ابتداها، وكانت أوليتها منه بلا سبب منك، واسم بهمتك عن ملاحظة الاختيار، ولا تركنن إلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى قضى ألا ينال ما عنده إلا بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد.

ثم اسم بسرك إلى المطلب الأعلى، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، كما قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:١١٨]، فسبقت توبته توبتهم، فلولا التوفيق لما تابوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق إرادة الخير في الخلق، وهذا هو التوفيق.

قال: بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، وهيأ لك وصرف عنك موانعها، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة، فتوكل عليه وحده، وعامله وحده، وآثر رضاه وحده، واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها، مستلماً لأركانها، واقفاً بملتزمها.

فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه، وخلع أفضاله، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك.

وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة، وزك له باطنك فإنه عنده ظاهر.

ثم قال رحمه الله: فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة جماع المعرفة بالله، وجماع العبودية له، فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته، فلا يرى لغيره شيئاً إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به، أو يتخذه عدة، أو يراه ليوم فاقته، أو يعتمد عليه في مهمة من مهماته، يعني: من التفت إلى هذه الأشياء- فكل ذلك من قصور نظره، وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع، كما هو شأن الطبيعة والهوى، وموجب الظلم والجهل، والإنسان ظلوم جهول.

فمن جلى الله سبحانه وتعالى صدأ بصيرته، وكمَّل فطرته، وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها، أصبح كالمفلس حقاً من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه، يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي: من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما.

فالعمل الصالح الذي عملته في الحقيقة هو فضل من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لولا توفيقه لما فعلته.

فالأسباب التي أخذت بها، وأوصلتك إلى النتيجة، كان يمكن أن.

لا يهيئها لك الله سبحانه وتعالى، وإذا هيأها لك ربما قضى موانع تمنع مفعولها، فكل هذا إنما هو من فضل الله سبحانه وتعالى.

قال: فيقول المؤمن: أستغفر الله من علمي ومن عملي، يعني: من أن أنتسب إليهما، وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما، وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك، فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابين: أحدهما: الخلاص من رؤية الأعمال، حيث كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها، فيستغرق بمطالعة الفضل غائباً عنها ذاهلاً عنها فانياً عن رؤيتها.

الثاني: أن يقطعه عن شهود الأحوال، أي: عن شهود نفسه متكثرة بها -أي: بهذه الأعمال- فإن الحال محله الصدر، والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب ثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء، فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل.

فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول ذهل القلب والنفس به، واشتغل بتحقيق اسم الأول واسم المنان عن أن ينسب إلى نفسه شيئاً، أو أن يرى لنفسه فضلاً، أو أن يتعلق بسبب من الأسباب.

قال: وصار العبد فقيراً إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، فصار مقطوعاً عن شهود أمر أو حال ينسبه إلى نفسه.

يعني: ينسب هذا كله إلى الله سبحانه وتعالى.