[تفسير قوله تعالى: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)]
قال عز وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٥].
أي: قال يوسف للملك: اجعلني على خزائن الأرض، أي: خزائن أرضك، أي: جميع الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: ((إني حفيظ عليم)) أي: أمين أحفظ ما تستحفظني، عالم بوجوه التصرف فيه.
ومن أروع ما يستدل به هنا على معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فنلاحظ يوسف عليه السلام ما أثنى على نفسه بحسن الصورة مع أن الله أعطاه شطر الحسن كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، والنسوة قلن: ((إن هذا إلا ملك كريم)) ومع ذلك ما قال: إني أوتيت شطر الحسن، ولم يتفاخر بانتسابه إلى الآباء والأجداد مع أنه هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظر إلى ما وصف به نفسه فقال: ((إني حفيظ عليم)).
قال الزمخشري: وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه.
وكذلك موسى عليه السلام وصفته ابنة الرجل الصالح بقولها: ((إن خير من استأجرت القوي الأمين)) ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: (أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة) أي: أشكو إلى الله من ثقة وأمين وعنده خوف من الله وورع وتقوى، لكنه قاصر ليس عنده الكفاءة في العمل، بينما نجد شخصاً فاجراً عنده القوة على هذا العمل، لكنه ليس أميناً، وأفضل الأحوال أن تجتمع الصفتان معاً كما قال تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:٤٥] جمع بين الأمانة وبين القوة.
ثم يقول الزمخشري: وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء حكم الله تعالى، وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا.
لا شك أن الأنبياء منزهون عن السعي وراء الدنيا، فلا يمكن أن يكون يوسف عليه السلام طلب الملك من باب حب الدنيا حاشاه عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد يوسف عليه السلام أن ينفع هؤلاء الناس، وأن يصل ويتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، وقد رأى أنه لا يقوم غيره مقامه.
ثم يقول: فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملاً من يد كافر، ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟ قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم.
وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به.
وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع.
وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه.
كان الوضع شبيهاً بوضع ملكة انكلترا تملك ولا تحكم -كما قال له هنا: لا أتميز عليك إلا بالعرش الملك- لكن الحكم الفعلي لرئيس الوزراء، فيبدو أن هذه الصورة التي كانت بين يوسف عليه السلام وبين هذا الملك.
وهذه الآية كما هي أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم، فهي أصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحة، وفي أن المتولي أمراً شرطه أن يكون عالماً به خبيراً ذا فطنة.
قال أبو السعود: وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرض بعدما قال له الملك: ((إنك اليوم لدينا مكين أمين)) ((قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)) ثم جاءت الآية مباشرة {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:٢١] إلى آخره ولم تحك الآيات الكريمة ما رد عليه الملك ولم يقل: وثقت أو قبلت ذلك إلا إيذاناً بأن ذلك أمر لا مرد له، وهو غني عن التصريح، لا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها من قوله: ((إنك اليوم لدينا مكين أمين))، وللتنبيه على أن كل ذلك من فعل الله عز وجل، وإنما الملك آلة وسبب في ذلك.
قال ابن كثير: خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات يقول القاسمي: ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره، والأهرام بفتح الهمزة جمع هرم بفتحتين، وهي مبان مربعة الدوائر مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة عن القاهرة أميال معدودة، من غرائب الدنيا.
ثم يقول: دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم، ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل): جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية، آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور.
يعني: كما تعلمون كان المصريون القدماء يعبدون الملوك، والملوك كانوا يسخرون الشعب تسخيراً قبيحاً جداً كما هو محفوظ.
وهذا الكلام الذي يذكره القاسمي أو ينقله عن كتاب (الأثر الجليل) هو لم يذكر بالضبط تاريخ طباعة الكتاب، لكن إذا كان من أيام ألف وثلاثمائة وواحد وعشرين فقد طبع من مدة بعيدة، ولا نجزم هل كان هذا الكلام قبل اكتشاف حجر رشيد، أم بعد اكتشاف حجر رشيد؟ لأن حجر رشيد هو الذي فتح باب الشر علينا، حينما أعان على ترجمة اللغة الهيروغليفية، وبالتالي لم ينفتح علينا مجرد اكتشاف آثار قدماء المصريين ومعرفة لغتهم، وإنما انفتح باب التكلم عليهم بإعجاب وبفخر وباعتزاز، مع كونهم من الوثنيين، فهذه خطة استعمارية خبيثة، كما تعرفون لو راجعتم التاريخ بداية الاكتشاف أعتقد كان هناك شخص يهودي اسمه روتشل تقريباً أراد أن يمول عملية اكتشاف الآثار المصرية مقابل الترويج للتاريخ الفرعوني القديم، بحيث يزاحم العقيدة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في أيامها، القصة معروفة تجدونها في كتاب (الإنتاجات الوطنية في الأدب المعاصر) للدكتور محمد حسين رحمه الله.
والآن كل بلد يكتشف فيها آثار قديمة يتوقع شراً بسبب الاكتشافات لتلك الأيام الماضية.
في البحرين أيضاً حصلت اكتشافات كلها تدور حول الشركيات والوثنيات وكل هذه الأشياء من أجل أن ينفخوا في هذه الروح؛ لإيجاد البديل عن العقيدة الإسلامية، فيفخر الناس بالانتماء إليه ويعتزون بهذا الذي يسمى بتراث الآباء والأجداد، فالله المستعان.
أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك خوفو، والثاني للملك خفرع والثالث للملك منقرع وجميعهم من العائلة المنفيسية، ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب أو مدرسة للمعارف الكهنوتية أو غير ذلك.