للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب)]

قال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:٢].

(ما) استفهامية تقتضي الإنكار، يعني: ما أغنى عنه شيئاً في الحقيقة، ويحتمل أن (ما) نافية: (ما أغنى) فهو نص على أن ماله لم يغن عنه شيئاً.

قوله: (وما كسب) يعني: وما كسب من المال، واكتساب المال إما أن يكون مالاً اكتسبه بالميراث ونحوه أو ما كسب من عمل جر عليه هذا الهلاك، وهو عداوته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:١١]، وقال تبارك وتعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية:١٠].

وفي هذه الآية سؤالان: السؤال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو قومه في مكة برفق وحلم، فما الحكمة من هذا الدعاء على عمه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:١]؟

الجواب

أنه كان يلاطفهم وهو يطمع في إسلامهم، أما عمه فقد يئس من إسلامه، فكان هذا الدعاء في محله، كما وقع من إبراهيم عليه السلام حينما كان يلاطف أباه ويقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:٤٣ - ٤٤]، فلما يئس منه تبرأ منه، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:١١٤]، وكذلك نوح عليه السلام لما أوحي إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:٣٦] حينئذٍ دعا عليهم بدعائه المعروف.

السؤال الثاني: ما الحكمة من مجيء قوله تعالى: (وتب) بعد قوله: (تبت يدا أبي لهب) مع أن الجملة الأولى كافية سواء قلنا: إنها إنشاء للدعاء أو إخبار بوقوع ذلك؟ الجواب -والله تعالى أعلم-: أن الجملة الأولى محتملة للخبر وللإنشاء، فإذا كانت خبراً فقد يمحو الله ما يشاء ويثبت، والإنشاء قد لا ينفّذ، كقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:١٧]، ويحمل على الذم فقط والتقبيح، فقوله بعد ذلك: (وتب) هو لبيان أن الهلاك واقع به لا محالة، وأنه ممن حقت عليهم كلمات ربك، فيئس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من إسلامه، وهنا تنقطع الملاطفة معه، والله تعالى أعلم.

وقد وقع ما أخبر الله به، وهذا من إعجاز القرآن الكريم ومن علامات النبوة، فإنه استمر على كفره حتى مات، قال الله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:١١٥]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:٣٣]، فهذه السورة من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.